صلب المسيح وقيامته

صلب المسيح وقيامته

وهو ردّ على ثلاثة كتيبات لأحمد ديدات: «ما هي آية يونان النبي؟» و «قيامة أم إنعاش؟» و «من دحرج الحجر؟»

جون جلكريست


Bibliography

صلب المسيح وقيامته. جون جلكريست. الطبعة الأولى . 2000. English title: The Crucifixion of Christ and his Resurection. German title: Die kreuzigung Jesu und seine Auferstehung.

هذا الكتاب:

طالعنا السيد أحمد ديدات من جنوب أفريقيا بثلاثة كتيّبات عناوينها «ما هي آية يونان النبي؟» و «قيامة أم إنعاش؟» و «من دحرج الحجر؟».

وننشر هنا ترجمة لكتيّب المحامي جون جلكريست من جنوب أفريقيا، وهو الذي اشترك في مناظرات كثيرة مع السيد ديدات ودحض مزاعمه - وهو هنا يردّ على مزاعم ديدات.

الناشرون

الجزء الأول

آية يونان النبي

مقدمة

يقول الكتاب المقدس والقرآن إنّ المسيح أجرى معجزات عظيمة كثيرة أثناء خدمته في فلسطين لمدة ثلاثة أعوام.

وآمن يهود كثيرون به عندما رأوا الآيات والعجائب التي قام بها. لكن رؤساء اليهود رفضوا أن يؤمنوا به. وبالرغم من أنّ معجزاته كانت معروفة في كل مكان، إلا أنهم كانوا يضغطون عليه كثيراً وبشدة ليقدم آيات أكثر وليعطي آية من السّماء (متّى 16: 1). ونتيجة لهذا الضغط المتكرر قال المسيح إنّه سيعطيهم آية واحدة فقط: «جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ ٱلْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هٰكَذَا يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي قَلْبِ ٱلأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ» (متّى 12: 39 و40).

ويونان هذا هو أحد أنبياء بني إسرائيل، دعاه الرب ليبشر مدينة أشورية هي «نينوى» (في العراق الآن) بالدينونة الوشيكة الحدوث. ولكنه عصى الله، وهرب على ظهر سفينة متَّجهة إلى «ترشيش» (في أسبانيا الآن). لكن ريحاً شديدة كادت تكسر السفينة. وعندما طُرح يونان في البحر ابتلعه حوت. وبعد أن ظلّ يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام عاد إلى مدينته يافا.

وتحدّث المسيح عن بقاء يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام على أنه «آية يونان» كما قال إنها الآية الوحيدة التي كان مستعداً أن يقدّمها لليهود غير المؤمنين.

في خلال عام 1976 نشر أحمد ديدات التابع لمركز الدعوة الإسلامية في دربان (جنوب إفريقيا) كتيباً عنوانه: «ماذا كانت آية يونان؟» وهذا العنوان يجعل القارئ يتوقّع عرضاً مدروساً لهذا الموضوع. لكن ظهر عكس ذلك! فإنّ ديدات لم يُجب بتاتاً على السؤال الذي طرحه، ولكنه تهجّم على كلمات المسيح وحاول أن يدحضها. وبنى حججه على افتراضين هما:

1 - إذا كان يونان قد ظل حياً خلال بقائه في جوف الحوت، إذاً فالمسيح كان يجب أن يظل حياً في القبر بعد إنزاله من فوق الصليب.

2 - إذا كان المسيح قد صُلب يوم الجمعة وقام صباح الأحد، فلا يمكن أن يكون قد بقي ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في القبر.

وسنبحث هذين الاعتراضين بالترتيب، ثم نقوم بتحليل الموضوع بأكمله لنعرف ماذا تعني «آية يونان».

هل كان المسيح حياً أم ميتاً في القبر؟

يقول المفسرون المسيحيون إنّ يونان النبي بقي حياً في جوف الحوت بمعجزة، ولم يحدث بتاتاً طيلة هذه المحنة أنّ يونان مات داخل الحوت، لكنه خرج حياً إلى الشاطئ. وقد اقتبس ديدات كلمات المسيح في متّى 12: 39 و40 ثم قرّر ما يأتي:

«بما أنّ يونان كان - فإنّ ابن الإنسان سيكون -». ويستنتج: «أنّ يونان ظلّ حياً لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال، فيتعيَّن أنّ المسيح بقي حياً في القبر كما تنبأ هو بذلك!» (كتيب ديدات صفحة 6).

وبالرغم من أنّ المسيح قال إنّ الشّبه بينه وبين يونان يتعلق بالفترة الزمنية التي كان على كلٍّ منهما بقاؤها (يونان في جوف حوت، والمسيح في قلب الأرض) فإنّ ديدات تجاهل هذا الإشارة التشبيهية، وادّعى أنّ المسيح كان يجب أن يشبه يونان في كل الحالات الأخرى أيضاً، بما في ذلك بقاء يونان في جوف الحوت.

لكن يتضح جلياً لدى قراءة كلمات المسيح أنّ الشَّبه يتعلَّق بالفترة الزمنية فقط - أما ديدات فيقول: «بما أنّ يونان ظل في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، فإنّ المسيح كان يجب أن يبقى مثل هذه المدة في قلب الأرض. وكما ظل يونان حياً في جوف الحوت، يجب أن يبقى المسيح حياً في القبر»!

ولكن المسيح لم يقُل هذا الكلام، ولا يمكن أن يُفهم من كلامه مثل هذا التأويل.

علاوة على ذلك فقد تكلم المسيح في مناسبة أخرى عن صَلبه القادم، مستعملاً كلمات شبيهة تؤيد الفكرة على نحو وافٍ: «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ» (يوحنا 3: 14). هنا يظهر الشَّبه جلياً في كلمة «يُرفع». كما رفع موسى الحية فإنّ ابن الإنسان «يُرفع» أيضاً، الأول لشفاء اليهود والثاني لشفاء الأمم. لقد كانت الحية التي صنعها موسى حيّة من نحاس. فإذا طبّقنا منطق ديدات على هذه الآية يجب أن يفترض أنها تعني أنّ المسيح كان يجب أن يكون ميتاً قبل أن يُرفع على الصليب - أي يكون ميتاً على الصليب وميتاً عندما أُنزل عنه! وهذا الافتراض لا يناقض المنطق فقط، بل يتعارض أيضاً مع حالتي يونان والحية النحاسية. فأحدهما كان دائماً حياً طيلة المحنة، والثانية ميتة دائماً عندما استُعملت رمزاً على عمود.

يظهر من هذا التعارض أنّ المسيح كان يقدّم فقط شبهاً بينه شخصياً وبين يونان، وبينه وبين الحية النحاسية. وهذا الشبه خاصٌ فقط بالمواضيع التي ذكرها بوضوح (الثلاثة أيام والثلاث ليال، والرَّفْع فوق العمود). فكوْن يونان حياً أم ميتاً ليس المقصود هنا، ولا دَخْل لهذا مع المقارنة التي ذكرها المسيح. وعلى هذا فإنه عندما أغفل ديدات الإشارة الوصفيّة للمدة الزمنية في حالة يونان فإنه لوى كلام المسيح وجعله يقول: «بما أنّ يونان كان حياً فإنّ ابن الإنسان سيكون حياً». ومن هذا الشّبه غير المحدد يرمي ديدات إلى أن تمتد المقارنة إلى حالة النبي داخل الحوت. لكن إذا استخدمنا نفس الطريقة مع الحية النحاسية، فإننا سنصل إلى نتيجة مضادة، فيها يكون معنى قول المسيح: «بما أنّ الحية ميتة فإنّ ابن الإنسان سيكون ميتاً» وحالة الحية أنها كانت دائماً ميتة.

من هذا يظهر جلياً أنّ المسيح لم يكن يريد أن يمدّ الشَّبه بينه وبين يونان إلى موضوع الحياة أو الموت، بل فقط في المقارنات التي تكلّم عنها بوضوح. وهكذا نجد أنّ أول اعتراضات ديدات قد انهار تماماً. فالذي يفسّر إعلان المسيح عن نفسه يجب أن يفهم هذا الإعلان من خلال القرينة، فلا يُحمِّل كلمات المسيح ما لا تحتمل.

ثلاثة أيام وثلاث ليال

من المتفق عليه عالمياً بين المسيحيين - مع بعض الاستثناءات القليلة - أنّ المسيح صُلب يوم الجمعة، وقام من بين الأموات يوم الأحد التالي له مباشرة.

وعلى هذا يدّعي ديدات أنّ المسيح ظل في القبر يوماً واحداً هو يوم السبت، فتكون المدة التي قضاها في القبر ليلتين فقط (ليلتي الجمعة والسبت). وبهذا يحاول ديدات أن يدحض آية يونان بالنسبة لعامل الزمن الذي ذكره المسيح. ويقول: «نكتشف أيضاً أنّه قد أُخفق في إنجاز عامل الزمن. إنّ أكبر المتخصصين في الرياضيات في العالم المسيحي سيُخفقون في الحصول على النتيجة المطلوبة، أي ثلاثة أيام وثلاث ليال» (صفحة 10).

وديدات هنا مع الأسف يتغاضى عن الفرق الكبير بين طريقة الحديث باللغة العبرية في القرن الأول والطريقة الإنجليزية للحديث في القرن العشرين. ولقد اكتشفنا أنه يميل دائماً إلى تكرار هذا الخطأ عندما يتعرض لتحليل المواضيع الكتابية. وقد فشل ديدات في التعرُّف على ما كان يحدث منذ حوالي ألفي عام، فإنّ اليهود كانوا وقتئذ (عند الحديث عن فترات زمنية متتابعة) يحسبون أي جزء من اليوم كأنه يوم كامل. وبما أنّ المسيح دُفن مساء يوم الجمعة، فإنه بقي في القبر طيلة يوم السبت، وقام في وقت ما قبل شروق يوم الأحد. (طبقاً للتقويم اليهودي كان يوم الأحد قد بدأ رسمياً عند الغروب يوم السبت). فلا شك إذاً أنه ظلّ (بحسب الحساب اليهودي) داخل القبر ثلاثة أيام. إنّ جهل ديدات بطريقة اليهود في احتساب فترات النهار والليل، وطريقة الحديث المعاصرة للمسيح، تجعله يقع في خطأ خطير في تفسير قول المسيح. ويستمر في الوقوع في الخطأ عينه بالنسبة لنبوَّة المسيح أيضاً فيما يختص ببقائه في القبر ثلاث ليال.

ولا يستعمل متكلمو اللغة الإنجليزية في القرن العشرين تعبير «ثلاثة أيام وثلاث ليال» وبناءً على ذلك يجب أن نبحث عن معنى هذا التعبير كما كان يُستعمل في اللغة العبرية في القرن الأول الميلادي.

إنّ الذين يتكلمون اللغة الإنجليزية في القرن العشرين لا يتكلمون بتاتاً بطريقة «النهار والليل». فإذا أراد شخص أن يتغيّب أسبوعين مثلاً فإنه يقول «أسبوعين أو أربعة عشر يوماً». ولم أسمع أي شخص يتكلم الإنجليزية يقول إنه سيغيب «أربعة عشر يوماً وأربع عشرة ليلة». ولكن هذا كان أسلوب الحديث باللغة العبرية وقتها. وبناءً على ذلك يجب أن نكون على حذر من البداية. فإذا كنا لا نستعمل هذا الأسلوب من التعبير، فلا يمكن أن نستنتج أنّ المعنى في الزمن الغابر يكون هو نفس المعنى الذي نقصده اليوم. يجب إذاً أن نبحث عن معنى نبوّة المسيح في ظل العصر الذي قيلت النبوّة فيه. ويجب أن نشير أيضاً إلى إسلوب التعبير كما كان مستعملاً في اللغة العبرية زمن المسيح. فقد كان عدد الأيام عندهم يساوي عدد الليالي. فمثلاً يقول: «وَكَانَ مُوسَى فِي ٱلْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (خروج 24: 18). ويقول: «فَكَانَ يُونَانُ فِي جَوْفِ ٱلْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ» (يونان 1: 17). ويقول: «وَقَعَدُوا مَعَهُ عَلَى ٱلأَرْضِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَ لَيَالٍ» (أيوب 2: 13).

يتضح من ذلك أنه لم يوجد أي يهودي يقول: «سبعة أيام وست ليال» أو «ثلاثة أيام وليلتين» حتى إذا كانت الفترة الزمنية هي كذلك. إنّ اللغة العبرية تشير دائماً إلى عدد متساوٍ من الأيام والليالي. وإذا أراد أحد اليهود في العصر السالف أن يذكر فترة زمنية قدرها «ثلاثة أيام وليلتين» فقط كان لا بد أن يقول: «ثلاثة أيام وثلاث ليال». ولدينا مثال جميل عن ذلك في سفر أستير عندما قالت أستير: «صُومُوا مِنْ جِهَتِي وَلاَ تَأْكُلُوا وَلاَ تَشْرَبُوا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لَيْلاً وَنَهَاراً» (أستير 4: 16). وفي اليوم الثالث (بعد انتهاء الصوم وانقضاء ليلتين) وقفت أستير في دار بيت الملك.

وبناءً على ذلك نرى بوضوح أنّ «ثلاثة أيام وثلاث ليال» بلغة الحديث العبرية لم تكن تعني فترة زمنية كاملة (ثلاثة أيام كاملة وثلاث ليال كاملة) بل كانت تعني أي جزء من اليومين الأول والثالث. الشيء الهام الذي يجب تسجيله هو أنّ عدد الأيام كان دائما مساوياً لعدد الليالي كلما جاء الحديث عن هذا الموضوع، ولو كان عدد الليالي الفعلي يقلّ بليلة عن عدم الأيام. وبما أننا لا نستعمل طريقة الحديث التي كانت مستعملة في سالف الأزمنة، فيجب ألاّ نحكم سريعاً على معناها.

ويوجد دليل قاطع في الكتاب المقدس، وذلك عندما قال يسوع لليهود إنه سوف يظل في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال، فقد عرفوا أنه من المتوقع أن تتم النبوَّة بعد ليلتين فقط. ففي اليوم اللاحق لصلب المسيح (أي بعد ليلة واحدة فقط) ذهبوا إلى بيلاطس وقالوا: «يَا سَيِّدُ، قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذٰلِكَ ٱلْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ ٱلْقَبْرِ إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ» (متّى 27: 63و64).

من الجائز أن نفهم أنّ كلمات «بعد ثلاثة أيام» تعني أي وقت في اليوم الرابع، لكن طبقاً للغة اليهود في ذلك العصر كانوا يعنون اليوم «الثالث» ولم يكن اهتمامهم محصوراً على حراسة القبر ثلاث ليالٍ كاملة. لكن كان يعني ذلك حتى اليوم الثالث (أي بعد ليلتين اثنتين فقط).

وبناءً على ذلك فإنّ عبارة «بعد ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ» لم تكن تعني مدة اثنتين وسبعين ساعة (كما نفهمها اليوم) بل تعني أي مدة زمنية تغطي فترة تصل إلى ثلاثة أيام. ففي تلك الأيام إذا قال شخص ما لشخص آخر (مثلاً في يوم الجمعة مساءً) إنه سيعود بعد ثلاثة أيام، فلا شك أنّ ذلك الشخص لن يتوقع عودة الآخر قبل الثلاثاء التالي. ونظراً لأنّ زعماء اليهود كانوا قلقين، وراغبين في تفادي أي تحقيق لنبوَّة المسيح (سواء حقيقية أو مدبّرة) فإنّ كل اهتمامهم كان منصبّاً على حراسة القبر حتى «اليوم الثالث» (أي يوم الأحد) لأنهم أدركوا أنّ معنى «بعد ثلاثة أيام» أو «ثلاثة أيام وثلاث ليال» ليس المفهوم الحرفي.

والسؤال الهام هو ليس كيف نقرأ تلك اللغة القديمة غير الموجودة في حياتنا الحالية، لكن كيف كان اليهود يقرأونها طبقاً لأسلوب عصرهم؟ ومن الأهمية بمكانٍ أن نسجل أنه عندما صرّح التلاميذ بشجاعة أن المسيح قام من الأموات في اليوم الثالث (أي يوم الأحد) بعد انقضاء ليلتين فقط (أعمال 10: 40) لم يحاول أي شخص أن يعترض على هذه الشهادة، كما يفعل ديدات وهو يدّعي أنّ ثلاث ليال كان يجب أن تنقضي قبل أن تتحقق نبوة المسيح! ولما كان ديدات يجهل أسلوبهم في الحديث، فإنه يهاجم افتراضياً النبوة التي ذكرها المسيح، لأنّه لم يبقَ في القبر فعلياً ثلاثة أيام وثلاث ليال، أي اثنتين وسبعين ساعة. (هذا يعني أيضاً أنّ إقامة يونان في جوف الحوت كانت تغطي فقط جزءًا من فترة الثلاثة أيام، ولم تكن بالضرورة ثلاثة أيام وثلاث ليال حرفياً).

يونان آية لأهل نينوى

حدثت واقعتان هامتان جداً عندما أرسل الرب يونان إلى نينوى ليحذر سكانها من أنه على وشك هدمها بسبب شرورها. لقد رأينا باختصار من قبل: طَرْح النبي يونان في البحر، وبقاءه في جوف الحوت ثلاثة أيام. ومن المهم أن نسرد القصة كما ذُكرت في القرآن، ثم نقارنها بالقصة التي وردت في الكتاب المقدس لنرى إلى أي مدى تتفق القصتان. وفيما يلي ما جاء في القرآن:

«وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ. فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ. فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ. فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَنَبَذْنَاهُ بِٱلْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ. وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجْرَةً مِنْ يَقْطِينٍ. وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَاۤمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ» (سورة الصافات 37: 139-148).

فإذا رجعنا إلى سفر يونان في الكتاب المقدس وجدنا القصة قد سُردت بأكملها. لقد وافق يونان على القرعة التي قام بها الملاحون على ظهر السفينة ليكتشفوا المتسبّب في حدوث الزوبعة التي هددتهم بالغرق، فوقعت القرعة على يونان. وبناءً على ذلك طُرح في البحر حيث ابتلعه الحوت. وبعد ثلاثة أيام قذفه الحوت إلى الأرض الجافة، ثم ذهب إلى نينوى ونادى بأنّ المدينة ستنقلب بعد أربعين يوماً. فآمنت المدينة بأكملها من الملك إلى جميع العبيد. ومن المدهش أنّ يونان اغتاظ عندما وجد أنّ الشعب تاب، لأنه كان يعلم أنّ الله رحيم وأنه سينقذ المدينة. ونظراً لأنه كان يهودياً وطنياً متحمساً، فقد كان يأمل أن تنقلب المدينة لأنها عاصمة مملكة أشور التي تهدد شعب سرائيل بصفة دائمة.

ولما كانت الحرارة شديدة صعد إلى ربوة آملاً أن يجد ملجأ من الحرّ. «َأَعَدَّ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ يَقْطِينَةً (شجرة كبيرة) فَٱرْتَفَعَتْ فَوْقَ يُونَانَ لِتَكُونَ ظِلاًّ عَلَى رَأْسِهِ... ثُمَّ أَعَدَّ ٱللّٰهُ دُودَةً عِنْدَ طُلُوعِ ٱلْفَجْرِ فِي ٱلْغَدِ، فَضَرَبَتِ ٱلْيَقْطِينَةَ فَيَبِسَتْ» (يونان 4: 6 و7). «َفقَالَ ٱللّٰهُ لِيُونَانَ: أَنْتَ شَفِقْتَ عَلَى ٱلْيَقْطِينَةِ ٱلَّتِي لَمْ تَتْعَبْ فِيهَا وَلاَ رَبَّيْتَهَا، ٱلَّتِي بِنْتَ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَبِنْتَ لَيْلَةٍ هَلَكَتْ. أَفَلاَ أُشْفِقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى ٱلْمَدِينَةِ ٱلْعَظِيمَةِ ٱلَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ رَبْوَةً مِنَ ٱلنَّاسِ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ، وَبَهَائِمُ كَثِيرَةٌ!» (يونان 4: 10و11).

الحدث الثاني الهام في هذه القصة هو إيمان مدينة نينوى بأكملها، وهذا جدير بالاعتبار فعلاً، لأنّ الأشوريين لم يكونوا يعرفون «الرب» أو يخشونه، ولم يكن هناك أي سبب وجيه للاكتراث بوعظ يونان، وبالأخص الإنذار الذي حذَّرهم به. لم تكن هناك أيضاً علامة ما تشير إلى أنّ المدينة ستنقلب بعد أربعين يوماً كما أنذر يونان، لأنّ الحياة في تلك المدينة كانت تسير سيرها الطبيعي بدون أية إشارة من الجو أو من الطبيعة أنّ هناك خطراً ما. لم تحدث مثلاً سحابة مشبعة بالكهرباء فوق المدينة كما حدث في عصر نوح عندما نزل الطوفان. ولم تكن المدينة تحت أي تهديد عسكري. إنّ كل الذي سمعته المدينة هو صوت منفرد لنبي يهودي يقول: «بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْماً تَنْقَلِبُ نِينَوَى» (يونان 3: 4). إننا نرى أحياناً رسوماً متحركة لرجالٍ مسنّين ذوي لحى يحملون لافتات مكتوب عليها: «العالم سينتهي مساء اليوم». ويصبح هؤلاء عادة مصدر تسلية وضحك عندما يظهرون في الشوارع حاملين مثل هذه الرسائل. وعندما توجَّه بولس إلى مدينة أثينا استُقبل استقبالاً ساخراً، فقد قال البعض تعليقاً على تبشيره: «تُرَى مَاذَا يُرِيدُ هٰذَا ٱلْمِهْذَارُ أَنْ يَقُولَ؟» (أعمال الرسل 17: 18).

ولكن موقف أهل نينوى كان مختلفاً - «فَآمَنَ أَهْلُ نِينَوَى بِٱللّٰهِ وَنَادُوا بِصَوْمٍ وَلَبِسُوا مُسُوحاً مِنْ كَبِيرِهِمْ إِلَى صَغِيرِهِمْ» (يونان 3: 5). استمع مئات الآلاف من أهل نينوى بكل جدية - من عرش الملك إلى أدنى إنسان من الشعب - لكلام يونان وتابوا وعملوا على النجاة من القضاء الوشيك أن يقع عليهم. لم يحاول يونان أن يقنعهم بصدق إنذاره القصير والبسيط، لكنه أعلنه كأمر واقع فقط. لم يؤكد لهم أنّ الله سيحفظ المدينة في حالة توبتهم. بالعكس لقد كانت رغبته وتوقُّعه أن تُهدم المدينة طبقاً لإنذار الرب، سواء أخذ أهل نينوى كلامه بجدية أم لا. لماذا إذاً تابوا وآمنوا أنّ الله لن يهلكهم؟ (يونان 3: 9).

لقد انبهر المؤرخون اليهود أمام هذه القصة، واستنتجوا أنّ التفسير الوحيد المقبول هو أنّ أهل نينوى علموا أنّ يونان كان قد ابتلعه حوت كعقاب من الله بسبب عدم طاعته. كما كانوا يعلمون أنه كان لا بد من أن يموت في مثل تلك الظروف، لكن رحمة الله أبقته وأخرجته من جوف الحوت في اليوم الثالث. هذا هو التفسير الوحيد الذي يفسّر استماع أهل نينوى ليونان بجدية وأمل في الرحمة إذا حدثت التوبة. كان تفسير المؤرخين اليهود أيضاً أنّ أهل نينوى أدركوا أنه إذا كان الله يعامل أنبياءه المحبوبين بمثل هذه الشدّة إذا لم يطيعوه، فماذا كانوا يتوقَّعون إذا قامت مدينتهم ضده في حالة شرور وخطايا؟ لقد كان تفسير اليهود صحيحاً. فقد أكَّد المسيح أنّ توبة نينوى حدثت نتيجة لعلم أهلها التام بما حدث ليونان، وظهر ذلك بجلاء عندما قال: «لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ آيَةً لأَهْلِ نِينَوَى» (لوقا 11: 30). لقد صدَّق المسيح على صحة قصة محنة يونان وتوبة أهل نينوى، وأكَّد أنّ تلك القصة حقيقية من الوجهة التاريخية. كما اعتمد أيضاً التفسير أنّ أهل نينوى كانوا قد سمعوا بمحنة يونان ونجاته العجيبة، وبناءً عليه تلقّوا رسالته بكل جدية آملين في النجاة، إذا ابتعدوا عن شرورهم بالتوبة. وعندما قال المسيح إنّ يونان أصبح آية لأهل نينوى، أظهر أنّ المدينة كانت تعلم تصرُّف الرب مع النبي اليهودي العاصي، وأعلن أنّ آية أخرى شبيهة على وشك الحدوث ستؤدي أيضاً إلى خلاص الذين يتوبون، وهلاك الذين لا يؤمنون.

إلا آية يونان النبي

طبقاً لما جاء في القرآن وفي الكتاب المقدس أجرى المسيح آيات وعجائب عديدة وسط بني إسرائيل (سورة المائدة 5: 110 وأعمال الرسل 2: 22). وبالرغم من أنّ بني إسرائيل لم يتمكنوا من إنكار هذه الأعمال (يوحنا 11: 47) إلا أنّهم رفضوا الإيمان بالمسيح. «وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ أَمَامَهُمْ آيَاتٍ هٰذَا عَدَدُهَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ» (يوحنا 12: 37).

نلاحظ أيضاً أنّ اليهود كانوا يلجأون إليه من وقت لآخر ليريهم آيات (متى 12: 38). وفي إحدى المناسبات طلبوا منه أن يريهم آيةً من السماء (متى 16: 1). وفي مناسبات أخرى لاحقوه بأسئلتهم: «أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هٰذَا؟» (يوحنا 2: 18). «فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟» (يوحنا 6: 30). بينما كان اليونانيون في ذلك العصر فلاسفة في المقام الأول، كان اليهود دائماً يرغبون في أن تكون كل الادِّعاءات مؤيَّدة بالقدرة على صنع الآيات. وكما قال الرسول بولس في إحدى رسائله: «لأَنَّ ٱلْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَٱلْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً» (1كورنثوس 1: 22).

كان اليهود يعلمون تماماً أنّ المسيح بطريقته الخاصة يعلن أنه المسيح المخلِّص الآتي. وإذا كان الأمر كذلك - حسب تفكيرهم - فكان عليه أن يقدم آيات ليؤيّد أقواله. وبالرغم من أنه قام فعلاً بصنع آيات عظيمة، إلا أنهم لم يؤمنوا، بالرغم من أنهم رأوه يطعم نحو خمسة آلاف رجل بخمسة أرغفة شعير وسمكتين (لوقا 9: 10-17). وقالوا إنّ موسى قام بمثل هذه المعجزات (يوحنا 6: 31)! فما هي الآية الجديدة الفريدة التي كان يجب أن يقدمها ليثبت لهم أنه أعظم من موسى؟ لم يكن الشعب في تلك العصور مستعداً للاقتناع بالآيات العظيمة. فعندما حوّل موسى عصاه إلى حية قام عرّافو فرعون بنفس العمل. لقد نافسوه أيضاً في تحويل الماء إلى دم، وجَلْب أسراب الضفادع من نهر النيل. لكن عندما ضرب موسى تراب الأرض ليصير بعوضاً في جميع أرض مصر، قال العرافون عندئذ: «هٰذَا إِصْبِعُ ٱللّٰه» (خروج 8: 19) لأنهم لم يتمكنوا من عمل مثل ما عمله موسى.

وبناءً عليه كان اليهود مستعدين فقط للإيمان بإعلانات المسيح إذا أمكنه أن يأتي بآيات أعظم من الآيات التي قام بها الأنبياء القدامى. لقد رأوه يطعم خمسة آلاف رجل، ويشفي البُرص، والذين وُلدوا عمياناً، كما رأوه يقيم المفلوجين ويطرد الشياطين، وأخيراً رأوه يقيم رجلاً من الموت بعد موته بأربعة أيام. لقد سلّموا بتلك المعجزات، ولكنهم لم يكونوا مقتنعين بها، لأنّ أنبياء آخرين كانوا قد قاموا بمثل تلك المعجزات. ماذا كان المسيح ليقدِّم حتى يرجِّح كفَّته؟ ولما كان الأنبياء قد تنبأوا أنّ المسيح سيُجري مثل هذه الآيات (تثنية 18: 18، 34: 10 و11) سألوه أن يريهم آية من السماء (متى 16: 1). ولما رأى المسيح جدّيتهم لطلب آية قال لهم: «هٰذَا ٱلْجِيلُ شِرِّيرٌ. يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةُ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ آيَةً لأَهْلِ نِينَوَى، كَذٰلِكَ يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ أَيْضاً لِهٰذَا ٱلْجِيلِ» (لوقا 11: 29 و30)، كانوا يريدون آية تثبت أنّ المسيح هو فعلاً مخلص العالم، فأعطاهم رداً واضحاً، وصنع أمامهم آية ليؤكد لهم إعلاناته، وهي آية يونان. قال: «لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ ٱلْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هٰكَذَا يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي قَلْبِ ٱلأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ» (متّى 12: 40).

بقي يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال. لم تكن هذه الآية فقط لأهل نينوى، بل كانت تشير مسبقاً أنّ المسيح ليس لشعبه فقط بل لجميع الشعوب في جميع العصور. كان سيبقى في قلب الأرض مدة مماثلة، فما معنى هذا؟ هل كان يتنبأ بموته؟ ولماذا يبقى في القبر ثلاثة أيام؟ لا شك أنّ اليهود ارتبكوا لهذه الاعلانات، لكن كلما طلبوا منه آية كان يكرر أنه لا توجد آية أخرى سوى آية يونان النبي. وأثناء إحدى الأحداث الهامة أفهمهم بوضوح معنى «الآية».

«انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه»

عندما رأى المسيح أنّ اليهود حوّلوا هيكل أورشليم من بيت للعبادة إلى مكان للتجارة، طرد الصيارفة وباعة الغنم والبقر والحمام. والهيكل هو مكان العبادة الكبير حيث يحل مجد الرب (الشكينا) في أورشليم. فسأله اليهود: «أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هٰذَا؟» (يوحنا 2: 18) وكأنهم يسألونه: «من خوّل لك أن تدخل هيكل الله الحي وتتصرف كأنك سيده؟» ومرة أخرى طلبوا منه آية. وللمرة الثانية وعدهم بالآية عينها: «ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ» (يوحنا 2: 19). كان المسيح يكرر لهم آية يونان كما كرر لهم أيضاً فترة الثلاثة أيام، لكنه أضاف شيئاً جديداً: أنه تحدّى اليهود لينقضوا «الهيكل». لقد قال من قبل إنّه سيظل في بطن الأرض ثلاثة أيام، وهنا يضيف أنه «هو» هيكل الرب الذي سينقضونه هم، ولكنه هو سيقيم نفسه بعد ثلاثة أيام. فلم يفهموا، وسألوه: «فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هٰذَا ٱلْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟» (يوحنا 2: 20).

كان عليهم أن ينقضوا «الهيكل» (والمقصود به هيكل جسده) ثم يقيمه هو بعد ثلاثة أيام. وكان عليهم أن يطالبوه بإجراء الآية التي وعد أن يقوم بها. وتركت إجابة المسيح هذه عليهم تأثيراً قوياً - فقد ارتعبوا من فكرة نقض الهيكل.

وعندما قدّموه بعد ذلك للمحاكمة أدلى شاهدان بشهادة ضده. قال الأول: «هٰذَا قَالَ إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ ٱللّٰهِ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ» (متى 26: 61). أما الشاهد الثاني فقال: «إِنِّي أَنْقُضُ هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ ٱلْمَصْنُوعَ بِٱلأَيَادِي، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِي آخَرَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِأَيَادٍ» (مرقس 14: 58).

ولنتأمل الآن ماذا حدث بعدئذ. لقد سخر بعض كهنة اليهود من المسيح عندما صُلب وقالوا له: «يَا نَاقِضَ ٱلْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، خَلِّصْ نَفْسَكَ!» (متى 27: 40). وبعد صعوده للسماء بفترة كان اليهود يتكلمون عن تحدّيه هذا لهم، وتخيّلوا أنّ هذه عقيدة مسيحية، وأنّ المسيح سينقض مكانهم المقدس (أعمال الرسل 6: 14).

إنّ تركيز اليهود العظيم على قول المسيح: «انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أبنيه» يدلّ على أهميته الكبرى. وبينما كان اليهود يتهكمون بالمسيح لم يكونوا يعلمون أنهم إنما يفعلون ذلك بالضبط! كانوا ينقضون الهيكل عندما قاموا بصلبه، ولسوف يقيمه هو بمعجزة وآية في اليوم الثالث، فعندما قال: «انقضوا هذا الهيكل» لم يكن يشير إلى المبنى الكبير في المدينة بل إلى جسده هو (يوحنا 2: 21).

قال المسيح إنه هو ابن الإنسان الذي سيظل في قلب الأرض ثلاثة أيام. وعندما كان يكلم اليهود كان يشير بوضوح إلى شخصه وليس إلى هيكل أورشليم الذي كان قد طهّره. لكن لماذا أشار إلى شخصه على أنه الهيكل؟ يتعيّن علينا لإجابة هذا السؤال أن نتفهّم مهمّة المسيح وشخصيته. كان اليهود يريدونه أن يثبت لهم أنه المخلّص الآتي بآيات تبرهن أنه أعظم من جميع الأنبياء الآخرين. فأجاب سؤالهم بما يفيد أنه ليس نبياً عادياً. لقد كان هيكل أورشليم مملوءًا بمجد الرب، وهكذا قيل عن المسيح: «لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْءِ» (كولوسي 1: 19). كما قيل: «ٱلَّذِي هُوَ صُورَةُ ٱللّٰهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ» (كولوسي 1: 15). وقيل: «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كولوسي 2: 9).

كان قول المسيح يعني: «انقضوني - أنا الذي فيَّ يحلُّ كلُّ الملء جسدياً - أميتوني. وعندما أقيم نفسي من الموت بعد ثلاثة أيام سأقدم لكم كل دليل تطلبونه على أني رب هذا الهيكل الذي هو مسكن الله».

المعنى الأساسي لآية يونان

ظهر الآن جلياً لماذا قدَّم المسيح لليهود تلك الآية الوحيدة، آية يونان النبي. إنّ موته ودفنه وقيامته من الأموات، كان سيثبت لهم بالتأكيد أنه المسيح الآتي. ورأينا أنّ اليهود كانوا يبحثون عن آية من السماء أعظم مما قام به أي نبي آخر في التاريخ يثبت بها المسيح صحة كلامه. وعندما نتأمل المعجزات التي قام بها الأنبياء القدماء يتضح لنا معنى آية يونان النبي بطريقة أفضل. كانت أعظم آية فعلها المسيح قبل محاكمته هي إقامة لعازر من الأموات بعد موته بأربعة أيام. لكن تلك الآية لم تقنع اليهود (يوحنا 12: 9 - 11) لأن النبي إيليا أجرى مثل هذه المعجزة. فهل هناك عمل خارق يقدر إنسان أن يقوم به أعظم من إقامة ميت وإعادته إلى الحياة ثانية؟ نعم! هناك احتمال واحد فقط، هو أن يُقيم نفسه بعد موته، فإنه لم يسبق لأحد قط أن فعل مثل هذه المعجزة! لقد أقام الأنبياء أثناء حياتهم أمواتاً، لكن الآية التي وعدهم بها المسيح هي أنه سيُقيم نفسه من الأموات! تلك هي آية يونان النبي. لقد وقف اليهود تحت الصليب يتهكمون بالمسيح: «أنت الذي ستنقض هيكل الرب في ثلاثة أيام». لكنهم لم يكونوا يعلمون أنّ المسيح سيقيم نفسه من الأموات في اليوم الثالث كدليل مُفْحمٍ على أنه هو المسيح، وهيكل الرب الذي يحل فيه الإله الحي بكل ملئه. فكما خرج يونان من أعماق البحر من جوف الحوت ليعيش ثانية على الأرض، فإنه كان مكتوباً أنّ المسيح سيموت ويُدفن ويُعيد نفسه للحياة في اليوم الثالث. وقال المسيح ذلك بوضوح لليهود: «لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي» (يوحنا 10: 17و18). لم يقل المسيح فقط وبوضوح إنه سيُقيم نفسه من الأموات في اليوم الثالث، لكنه كان يثبت من وقت لآخر أنه أعظم من جميع الأنبياء. فعندما سأله اليهود: «أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ؟» (يوحنا 8: 53)، أجاب أنه أعظم وإن إبراهيم كان يتطلع إلى يومه (يوحنا 8: 56)، وأضاف: «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يوحنا 8: 58). وبنفس الطريقة سألته امرأة سامرية: «أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ؟» (يوحنا 4: 12) فأجاب: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هٰذَا ٱلْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلٰكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ» (يوحنا 4: 13و14).

لقد أثبت أنه أعظم من موسى لأنّ موسى كتب عنه (يوحنا 5: 46) وأنه أعظم من داود «فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِٱلرُّوحِ رَبّاً؟» (متّى 22: 43)، وأعظم من النبيين سليمان ويونان (لوقا 11: 31 و32) بل إنه أعظم من هيكل الرب (متّى 12: 6). فإنّ هيكل الرب مملوء فقط بمجد الرب، بينما في المسيح يحل كل ملء اللاهوت جسدياً.

ولم يحدث أبداً أن حصل إنسان على حكمة أعظم من سليمان، لكن المسيح هو «حِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (1كورنثوس 1: 24). وكان يونان مصدر إنقاذ لأهل نينوى، لكن المسيح «صَارَ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُطِيعُونَهُ سَبَبَ خَلاَصٍ أَبَدِيٍّ» (عبرانيين 5: 9). ومع أنه كان هناك أنبياء كثيرون، إلا أنه لم يظهر سوى مسيح واحد. وبينما قدّم الأنبياء آيات كثيرة، فقد احتفظ المسيح لنفسه بأعظم الآيات. وبما أنّ محنة يونان في جوف الحوت هي إشارة مسبَّقة لآية قيامة المسيح من الأموات، فلهذا قدّم المسيح هذه الآية وحدها كدليل على أنه هو المسيح فعلاً.

وهذا يقودنا إلى إشارة أخرى في كتيب آخر لأحمد ديدات يقول فيها إنه لا توجد إشارة في الأناجيل إلى صلب المسيح الوشيك الحدوث سوى آية يونان (كتيب ديدات: «هل صُلب المسيح؟» صفحة 33). لقد قدّم هذه الملاحظة ليثبت أنّ المسيح نزل حياً من فوق الصليب وبطريقة ما استعاد صحته في قبره! وطبقاً لما يدَّعيه ديدات فإنّ المسيح أُنزل حياً من الصليب وبقى حياً فقط لأنه كان على وشك الموت، مما جعل الرومان يعتقدون أنه مات فعلاً، ثم توصل المسيح عن طريق اتصالات سرية بتلاميذه وتنكرات عديدة لاسترداد صحته تدريجياً.

ونحن نتساءل: ما هو نوع هذه الآية؟ إذا سلَّمنا جدلاً بادّعاءات ديدات نستنتج أنّ المسيح نجا من الموت بالصدفة المحضة، واستردَّ صحته بطريقة عادية. ولو كان ذلك قد حدث فعلاً لما كان في ذلك أي معجزة، وهذا يهدم المعجزة الأعظم من أي معجزة قام بها الأنبياء في الماضي. إنّ تحليل ديدات لآية يونان يتركنا بدون أي آية بتاتاً!

ومن جهة أخرى، إذا أخذنا في الاعتبار سرد ما جاء في الكتاب المقدس عن الصلب، وسلّمنا بأنّ يسوع مات على الصليب ليُقيم نفسه من الأموات في اليوم الثالث، فسنجد آية حقيقية ودليلاً قاطعاً على أنّ ما قاله كان صحيحاً. إنّ أنبياء آخرين - وهم على قيد الحياة - أقاموا أمواتاً وأعادوهم إلى الحياة. أما المسيح فهو الوحيد الذي أقام نفسه من الأموات إلى الحياة الأبدية، وصعد إلى السموات حيث هو موجود الآن. وهنا فقط نجد المعنى الصحيح لآية يونان النبي، وندرك أنّ المسيح تكلم عن هذه الآية الوحيدة على اعتبار أنها الآية التي كان مستعداً لتقديمها لليهود.

نرى إذن أنّ مناقشة ديدات الأخيرة لصالح النظرية القائلة إنّ المسيح بقي على قيد الحياة فوق الصليب هي في الواقع أقوى دليل ضده. ورغم أنه من السهل دحض ما جاء في كتيبات ديدات فإننا لا يمكن أن نترك الموضوع هكذا، لأن الآية التي قدمها المسيح أثّرت على جميع البشر في كل العصور. وبما أنّ بقاء يونان في أعماق البحر وهو في جوف الحوت ثلاثة أيام برهن على صحة رسالته لأهل نينوى، فإنّ موت ودفن وقيامة المسيح وضع خاتم التصديق على مهمته في خلاص البشرية في جميع العصور. فإذا فاتك مضمون هذه الآية فإنّ المسيح لم يقدم آية سواها. ولا يوجد دليل آخر على أنه مخلّص العالم للذين لا يريدون أن يؤمنوا به كالله والمخلص.

وبالرغم من ذلك فلدينا تأكيد للذين يرغبون في الإيمان بالمسيح واتّباعه طيلة أيام حياتهم كمخلّص ورب. فكما لم تهلك أي نفس في نينوى التائبة، فإنّ نفسك لن تهلك إذا آمنْت بالمسيح الذي مات من أجل خطاياك، وقام من الأموات في اليوم الثالث لأجل تبريرك (رومية 4: 25).

الجزء الثاني

المسيح قام حقاً

المسيح قام حقاً

في عام 1987 نشر ديدات كتيباً بعنوان «قيامة أم إنعاش؟»، فيه حاول - كما ورد في كتيبه عن آية يونان - إثبات أنّ المسيح نزل حياً من فوق الصليب. وهي نظرية لا أساس لها من الصحة - لا في الكتاب المقدس ولا في القرآن - وقد تبرأ منها المسيحيون والمسلمون معاً. والطائفة الوحيدة التي اعترفت بتلك النظرية هي الطائفة الأحمدية التي اتُّهمت في باكستان بأنها طائفة غير مسلمة.

يُعزز ديدات في هذا الكتيب وفي الكتيبات الأخرى التي كتبها المناقشات التي لا تستند إلى إيّ أساس، لكنها تثبت جهله بالكتاب المقدس. ويذكر ديدات حديثاً دار بينه وبين «شخصية لها اعتبارها» عما جاء في إنجيل لوقا 3: 23. وقال: «لقد أوضحت له أنّ تعبير «على ما كان يُظَنُّ» غير موجود في أقدم مخطوطات إنجيل لوقا» (صفحة 7). ولا يرتكز ديدات إلى أي مرجع لتأكيد كلامه! ونحن مندهشون لذلك، لأنّ بيانه زائف تماماً. ويبدو أنه يعتقد أنه يقدر أن يقول ما يريد عن الكتاب المقدس مهما كانت بياناته سخيفة. إنّ كل مخطوط للإنجيل حسب البشير لوقا، بما في ذلك المخطوطات القديمة جداً، تبدأ كلها سلسلة نسب المسيح بالقول: «على ما كان يُظن ابن يوسف». ومعنى ذلك أنه ليس ابن يوسف بالفعل، لأنه وُلد من العذراء القديسة. ولا يوجد أي دليل على ادّعاء ديدات السخيف، وينطبق نفس الكلام على معلومات ديدات التي ينادى بها دون غيره بالنسبة لمعرفته بالكتاب المقدس. ونحن على يقين أنّ المسلمين الأذكياء تبيَّنوا الآن أنّ ديدات ليس عالماً حقيقياً بالكتب المسيحية المقدسة.

ويبدو أنّ ديدات يظن أنّ الكلمات التي ذكرها، (وتظهر بين قوسين في بعض الترجمات الإنجليزية) غير موجودة في أقدم المخطوطات. لكن أي عالم باللغة الإنجليزية يعلم تماماً أنّ استعمال القوسين هو طريقة متبعة في اللغة الإنجليزية لتُبيّن تعليقات عرضية أو ملاحظات شخصية مميّزة. وهذان القوسان لا يظهران في النص اليوناني. لكن لأنّ كلمات لوقا 3: 23 هي تعليق منه، فإنّ بعض الترجمات تضعها بين قوسين. وتظهر هذه الطريقة أحياناً في ترجمة RSV فهي تستعمل الأقواس لفقرات لا تُستعمل فيها الأقواس في الأصل اليوناني.

إنّ حجّة ديدات مبنية بأكملها على افتراضات كاذبة وتقديرات خاطئة. ويحاول ديدات أن يبرهن أنّ ما جاء في إنجيل لوقا 24: 36-43 يُظهر أنّ المسيح نزل حياً من فوق الصليب. وهو يبني كل حجته على سوء إدراك تام للتعليم الكتابي عن قيامة الأموات في اليوم الأخير. فمن المتفق عليه أنّ لكل إنسان جسداً وروحاً. وعند الوفاة يموت الجسد وتفارقه الروح. ويعلّم الكتاب المقدس بوضوح أنّ الجسد والروح سوف يتّحدان ثانيةً عند القيامة. أما أجساد المؤمنين الحقيقيين فستُقام وتتغيّر إلى أجساد روحانية (1كورنثوس 15: 51 - 53). معنى هذا أنّ الروح سوف تلبس جسداً يُظهر الروح التي ستكون أبدية. ومع ذلك فإنّ ديدات يتجاهل هذا تماماً ويقول خطأ إنّ كلمة «روحاني» تعني إنّ الجسد لا يُقام من الأموات ويتغيّر، لكن الروح فقط هي التي سوف تُقام.

عندما ظهر يسوع لتلاميذه بعد قيامته من القبر «جَزِعُوا وَخَافُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ نَظَرُوا رُوحاً» (لوقا 24: 37). ويجادل ديدات بأنّ معنى ذلك أنهم آمنوا أنّ يسوع كان ميتا، فظنوا أنهم يرون روحه. ولكن الكتاب المقدس يذكر بوضوح أنهم اندهشوا وهم خلف الأبواب المغلقة خوفاً من اليهود. «فجاء يسوع ووقف أمامهم فجأة» (يوحنا 20: 19). وعندما قام من الأموات «في جسد روحاني» كان في إمكانه أن يظهر ويختفي بمشيئته، ولم يكن مقيَّداً بحدود جسمانية (لوقا 24: 31 ويوحنا 20: 26).

ونظراً لأنّ المسيح طلب من التلاميذ أن يجسّوه، ثم أكل أمامهم جزءًا من سمك (لوقا 24: 39-43) يدَّعي ديدات أنّ ذلك يبرهن أنّ المسيح لم يقم من الأموات. وهو يبني حجته على افتراض أنه لا يمكن لجسد أصبح روحانياً أن يكون مادياً، لكنه فقط يجب أن يكون روحاً. وكذلك يدّعي أنّ المسيح كان يحاول أن يُظهر لتلاميذه أنه لم يقم من الأموات. ويقول ديدات: «إنه يقول لهم بأوضح لغة إنسانية ممكنة إنه ليس ما كانوا يظنون عنه. فإنهم كانوا يعتقدون أنه روح، جسد مقام، أي أنه جسد عاد ثانية من الأموات. وهنا يؤكد لهم المسيح أنه ليس كذلك» (قيامة أم إنعاش صفحة 11). يدّعي ديدات أنّ المسيح كان يحاول إقناع تلاميذه أنه لم يقم من الأموات! لكن عندما نرجع إلى ما قاله المسيح للتلاميذ بعد ذلك مباشرة نجد أنه قال بوضوح إنه فعلاً قام من الأموات. فقد قال: «هٰكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ، وَهٰكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ، وَأَنْ يُكْرَزَ بِٱسْمِهِ بِٱلتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ، مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيمَ» (لوقا 24: 46 و47).

لقد قال المسيح لتلاميذه مباشرة بعد أن أكل أمامهم إنه قد حقّق نبوات الأنبياء السابقين، بأنه سيقوم من الأموات في اليوم الثالث. مرة أخرى نجد أنّ حجة ديدات لا قيمة لها لسبب بسيط، أنه ليس عالماً فذاً بالكتاب المقدس، وليست لديه معلومات ولو بسيطة عن علم اللاهوت المسيحي.

يعلّمنا الكتاب المقدس بوضوح أنّ الجسد، وهو مادة محسوسة، سيُقام في يوم القيامة. (ارجع لتعاليم يسوع في إنجيل يوحنا 5: 28 و29) ويعلّمنا أنّ هذا الجسد سوف يتغيَّر. مثلاً إذا كان هناك أخوان توأمان متماثلان في الشكل يحرثان نفس الحقل، فمن الصعوبة أن نفرّق بينهما. ولكن قد يكون أحدهما باراً والآخر شريراً. إنّ الفرق ليس ظاهرياً لكنه سوف يظهر عند القيامة! فحالة الجسد سوف تتحدد طبقاً لحالة الروح. فإذا كان الإنسان باراً فإنّ جسده «سيضيء كالشمس» (متّى 13: 43). أما الشرير فلن يتمكن من إخفاء تعفّنه كما يفعل الآن، لكنه سيُفضح بكل بؤسه، ويظهر ذلك في حالة جسده. وهذا ما نعنيه عندما نقول إنه سيكون للناس «أجسام روحانية» عند القيامة، فالقيامة تنتج جسماً روحانياً وليس مجرد روحٍ مقامة. وقد جاء في الكتاب المقدس بهذا الخصوص: «هٰكَذَا أَيْضاً قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضَعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. يُزْرَعُ جِسْماً حَيَوَانِيّاً وَيُقَامُ جِسْماً رُوحَانِيّاً. يُوجَدُ جِسْمٌ حَيَوَانِيٌّ وَيُوجَدُ جِسْمٌ رُوحَانِيٌّ» (1كورنثوس 15: 42 - 44). إنّ الجسم الذي يُدفن في حالة قابلة للتلف هو نفس الجسم الذي سيُقام في حالة غير قابلة للتلف. وهذا يُظهر أنّ نفس الجسم المادي الذي دُفن كحبة زُرعت في الأرض سيُقام كجسم روحي. هذا تعليم كتابي واضح يريد ديدات تحريفه! مرة ثانية نجد في 2كورنثوس 5: 1 - 4 أنّ رغبة المؤمنين الحقيقيين ليست أن يصبحوا أرواحاً بلا أجسام، لكنهم يشتاقون إلى استبدال أجسامهم غير الخالدة بأجسام روحية خالدة.

إنّ مجهودات ديدات لتشويه المسيحية نابعة من افتراضات مبنية على معلوماته الناقصة عن الكتاب المقدس. ويبدو أنه أحد المذنبين الذين «يَفْتَرُونَ عَلَى مَا يَجْهَلُونَ» (2بطرس 2: 12). إنّ إعلان المسيح أنه جاء ليحقق النبوات القائلة إنّ المسيح سيقوم من الأموات في اليوم الثالث، يظهر بجلاء أنه لا أساس من الصحة بتاتاً لمحاولات ديدات أن يبرهن أنّ المسيح نزل حياً من فوق الصليب.

لقد قام المسيح من الأموات في اليوم الثالث وصعد بجسده الممجّد بعدئذ إلى السموات، وذهب ليجهز مكاناً للذين يحبونه ويتبعونه كل أيامهم كربّ حياتهم ومخلِّصها. وعندما يعود سيُقيمهم من الأموات ويُلبسهم أجساماً خالدة تخوّل لهم الدخول إلى ملكوته الأزلي الذي يُنتظر أن يعلنه في الزمان الأخير. ففي إمكان المسيحيين الحقيقيين أن يقولوا وبثقة: «فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، ٱلَّتِي مِنْهَا أَيْضاً نَنْتَظِرُ مُخَلِّصاً هُوَ ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ ٱسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ» (فيلبي 3: 20 و21).

«المسيح أَرَاهُمْ أَيْضاً نَفْسَهُ حَيّاً بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ، وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْماً، وَيَتَكَلَّمُ عَنِ ٱلأُمُورِ ٱلْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ» (أعمال الرسل 1: 3).

الجزء الثالث

الملاك دحرج الحجر

الملاك دحرج الحجر

نشر ديدات عام 1977 كتيباً صغيراً اتَّخذ عنوانه من عنوان كتاب فرانك موريسون المحامي البريطاني «من دحرج الحجر؟» فيه حاول ديدات مرة أخرى أن يبرهن نظرية نزول المسيح حياً من فوق الصليب. ولقد رأينا من قبل أنّ هذه النظرية لا أساس لها من الصحة. وعلى ذلك فليس من الضروري أن نعيد معالجة هذا الموضوع الذي يحاول ديدات أن يبرهنه. كل ما نريد إظهاره مراراً وتكراراً هو أنّ ديدات اضطر إلى اللجوء لسخافات محاولاً أن يثبت بها نظريته.

إنه يحاول مثلاً أن يثبت أنّ مريم المجدلية كانت لا بد تبحث عن المسيح حياً عندما حضرت لدهن جسمه، مع أنّ دهن الجسم كان جزءًا من عادات الدَّفن العادية عند اليهود. وديدات يرفض هذا لأنّ فيه دحضاً لحجته. وعلى ذلك فهو يقترح أنّ جسد المسيح لا بد وأن يكون قد فسد من الداخل إذا مات على الصليب. وبهذه المناسبة يقول ديدات: «إذا دلّكنا جسداً فاسداً يتفتت أجزاء صغيرة» (ديدات «من دحرج الحجر؟» صفحة 3). يقول ذلك بالرغم من أنّ مريم توجّهت إلى القبر بعد موت المسيح بحوالي تسع وثلاثين ساعة تقريباً. إنّ الادّعاء بأنّ جسداً ميتاً سيتفتّت خلال ثمان وأربعين ساعة من الموت هو هراء علمي تام! وإذا كان لهذا الجدل أي اعتبار أو جدارة فما كان لديدات أن يضطر إلى اللجوء لمثل هذا التوضيح المضحك السخيف.

يتغاضى ديدات عن احتمالات واضحة عندما يقول: «عندما توجَّهت مريم المجدلية لأخْذ جسد المسيح (يوحنا 20: 15) كان تفكيرها محصوراً فقط في مساعدته على السير إلى مكان آخر، ولم يكن في إمكانها أن تحمل جسده». ويدَّعي ديدات أيضاً أنها كانت «إمرأة يهودية ضعيفة، لم تكن تقدر أن تحمل جسداً يزيد وزنه عن مائة وستين رطلاً على الأقل ملفوفاً في مرّ وعود (يوحنا 19: 39) يزنان مائة رطل أخرى، أي حزمة تزن مائتين وستين رطلاً» (ديدات «من دحرج الحجر؟» صفحة 8).

وليس هناك ما يشير بتاتاً إلى أنها كانت تعتزم أن تنقل الجسد بمفردها. فعندما اكتشفت أولاً أنّ الجسد قد نُقل من القبر، ركضت إلى تلميذي يسوع بطرس ويوحنا وقالت لهما: «أَخَذُوا ٱلسَّيِّدَ مِنَ ٱلْقَبْرِ وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ» (يوحنا 20: 2). أما الأناجيل الأخرى فتذكر بوضوح أنّ مريم لم تكن بمفردها عندما توجَّهت إلى القبر صباح ذلك الأحد. فإنّ يونّا ومريم أم يعقوب كانتا ضمن النساء اللواتي صحبنها (لوقا 24: 10)، لذلك قالت: «ولسنا نعلم أين وضعوه» (بصيغة الجمع). ونظراً لأنها لم ترَ المسيح أولاً، ولكن رأته بعد ذهاب بطرس ويوحنا إلى القبر، فلا يوجد سبب لافتراض أنها لم تكن تعتزم الحصول على مساعدة التلميذين المذكورين أو المرأتين الأخريين لحمل الجسد إلى مكان آخر. وهنا دليل ملموس في الكتاب المقدس أنّ مريم المجدلية كانت تؤمن أنّ المسيح قام من الأموات. إنّ هذا يعود بنا إلى نظرية ديدات بأكملها المذكورة في كتيبه «من دحرج الحجر؟» واستنتاجه أنّ يوسف الرامي ونيقوديموس (اثنين من تلاميذ المسيح كانا من مذهب الفريسيين) هما اللذان دحرجا الحجر. ويقول ديدات في كتيبه: «لقد كان يوسف الرامي ونيقوديموس قويَّا البنية، ولم يتركا المعلم في وقت الشدة عندما كان أكثر احتياجاً. إنهما قاما بغسل الجسد على طريقة الدفن اليهودية (؟) ثم دهناه بالعود ولفَّا الجسد ووضعا الحجر على القبر مؤقتاً - إن كان ذلك قد حدث أصلاً - وكانا هما نفس الصَّديقين الحقيقيين اللذين دحرجا الحجر وأخذا سيدهما المصدوم في مساء يوم هذا الجمعة ذاته بعد الظلام بقليل إلى مكان أكثر ملائمة، إلى منطقة قريبة جداً، وذلك لعلاجه» (ديدات «من دحرج الحجر؟» صفحة 12).

يبدأ ديدات كتيبه بأمل أنه سيتمكن من تقديم «رَدٍّ مُرْضٍ لتلك المشكلة» (صفحة 1). فنجد على غلاف الكتيب تعليقاً من الدكتور ج.م. كريم يصف دحرجة الحجر بأنها «المشكلة التي أقلقت أذهان المسيحيين المفكرين». وكأنّ الكتاب المقدس كان صامتاً بالنسبة لهذا الموضوع، وكأنّ المسيحيين منزعجون بالنسبة لمشكلة ما، وعليهم بالتالي أن يفكروا فيمن دحرج الحجر. إنّ هذا تفكير سقيم، لأنّ الكتاب المقدس يذكر بوضوح أنّ «مَلاَكَ ٱلرَّبِّ نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ ٱلْحَجَرَ عَنِ ٱلْبَابِ، وَجَلَسَ عَلَيْهِ»(متّى 28: 2). هل هناك فعلاً أي مشكلة بالنسبة لهذا الموضوع؟ هل من الصعب أن نؤمن أنّ ملاكاً واحداً يقدر أن يدحرج الحجر؟ طبقاً لما جاء بالكتاب المقدس فقد تمكن ملاكان اثنان من تدمير مدينتي سدوم وعمورة (تكوين 19: 24 و25)، كما تمكن ملاك واحد من إبادة جيش سنحاريب بأكمله الذي كان مكوّناً من مائة وخمسة وثمانين ألف جندي (2ملوك 19: 35)، وفي مناسبة أخرى بسط الملاك يده على مدينة أورشليم ليهلكها بأكملها قبل أن يطلب منه الرب أن يرد يده (2صموئيل 24: 16) وعلى ذلك فلن يُدهش أحد إذا اكتشف أنّ ملاكاً واحداً هو الذي دحرج الحجر. ويؤمن جميع المسلمين بالله وملائكته (سورة البقرة 2: 285)، والقرآن يوافق على أنّ الملائكة الذين جاءوا لتدمير المدينة التي كان لوط مقيماً فيها (سورة العنكبوت 29: 31-34) هي مدينة سدوم المذكورة في الكتاب المقدس.

وبناءً على ذلك فإنّ القرآن يفرض على المسلمين ليس الإيمان بالملائكة فقط، بل وبسلطانهم على شؤون الناس والأرض، وعليه، فلا يوجد مسلم واحد يعترض على قول الإنجيل إن ملاكاً هو الذي دحرج الحجر. لماذا يرفض ديدات إذاً قول الكتاب المقدس ويقترح مضلّلاً أنّ شخصية الذي دحرج الحجر «مشكلة»؟ لماذا لم يورد ديدات الآية التي ذكرت جلياً أنّ ملاكاً هو الذي دحرج الحجر؟ السبب: أن نظريته القائلة إنّ يسوع قد أُنزل حياً من فوق الصليب وإنّ مريم كانت تبحث عن يسوع الحي، نظرية تتعارض مع ما قاله الملاك لمريم: «َلا تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ ٱلْمَصْلُوبَ. لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا، لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ. هَلُمَّا ٱنْظُرَا ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي كَانَ ٱلرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ. وَٱذْهَبَا سَرِيعاً قُولاَ لِتَلاَمِيذِهِ إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا» (متّى 28: 5 - 7). لقد قال الملاك لمريم والنساء الأخريات بوضوح: «ٱذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُمْ. فَخَرَجْنَ سَرِيعاً وَهَرَبْنَ مِنَ ٱلْقَبْرِ، لأَنَّ ٱلرِّعْدَةَ وَٱلْحَيْرَةَ أَخَذَتَاهُنَّ» (مرقس 16: 7 و8). فإن كنَّ قد فكَّرْنَ أنّ المسيح بقي حياً بعد نزوله من على الصليب، فكيف يندهشْنَ عندما يجدْنَه قد ترك القبر؟ الحقيقة إذاً هي أنهنّ جئن للقيام بواجبات الدفن لجسد ميت، عندما وجدن ملاكاً يقول لهن إنّ يسوع قد قام من الأموات!

نستنتج مما تقدّم أنّ ديدات لا يقدّم فقط سخافات غير منطقية ليدعّم بها مجادلاته، بل يضطر أيضاً إلى طمْس بيانات واردة في الكتاب المقدس تدحض أقواله تماماً. إننا نهيب بكل المسلمين أن يقرأوا الكتاب المقدس ليكتشفوا حقائقه العجيبة، بدلاً من قراءة كتيبات ديدات التي تمسخ التعاليم الواضحة، وتقدم بدائل مليئة بالسخافات كما أظهرها هذا الكتيب مراراً وتكراراً.

مسابقة كتاب: «صلب المسيح وقيامته»

أيها القارئ العزيز،

بعد دراستك لهذا الكتيب بمواضيعه المتنوعة، نقدم لك الملخص بشكل مسابقة يمكنك من خلالها فحص معلوماتك بما يخص هذا الموضوع. نحن بانتظار اجابتك.

  1. ما هي المعجزة التي أجراها المسيح ولم يسبقه أحد قط في القيام بها؟

  2. ماذا قال المسيح إنه شَبَه بينه وبين يونان؟

  3. ما هو الشَّبه بين المسيح والحية النحاسية، كما جاء في يوحنا 3: 14؟

  4. ما هو المقصود بالتعبير العبري «ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ»؟ برهن ما تقوله بآيات من التوراة

  5. لماذا آمن أهل نينوى بوعظ يونان النبي؟

  6. لماذا لم يؤمن شيوخ اليهود بالمسيح بالرغم من كثرة ما أجرى من معجزات؟

  7. ما هي نظرية ديدات في صَلْب المسيح؟ اشرح كيف تناقض الإنجيل والقرآن معا.

  8. اشرح معنى «جسد روحاني».

  9. من دحرج الحجر؟ وما هي المشكلة التي يثيرها ديدات عن دحرجة الحجر؟

  10. ماذا كانت مريم المجدلية تنوي عمله لجسد المسيح؟ وبماذا كلَّفها المسيح؟

الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:

www.the-good-way.com/ar/contact

او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:


The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486
Rikon
Switzerland