شخصيّة المسيح في الإنجيل والقرآن

شخصيّة المسيح في الإنجيل والقرآن

إسكندر جديد


Bibliography

شخصيّة المسيح في الإنجيل والقرآن. . إسكندر جديد. الطبعة الأولى . 1973. English title: The Peron of Christ in the Gospel and the Qoran. German title: Die Person Christi im Evangelium und im Koran.

1 - المسيح في الإسلام

ورد ذكر المسيح في 93 آية من القرآن. وإلى هذه الآيات يرجع التفكير الإسلاميّ، كلّما تناول شخص المسيح بالبحث.

وفي معظم الأحيان كان فقهاء المسلمين يلجأون إلى النصوص المسيحيّة لتفسير هذه الآيات. ومَن يتأمّل في كتاباتهم يرى أنّهم تقبّلوا من تلك النصوص كلّ ما اعتبروه موافقاً للفكر الإسلاميّ، ولكنّهم رفضوا دوماً محاولة التوفيق بين الإنجيل والقرآن، بسبب التباين بين مجمل العقائد والأخبار الواردة في الكتابَين. وفي حرصهم على الاعتقاد بصحّة القرآن قالوا بتحريف الإنجيل، كلّما ناقض نصُّه القرآن.

وفي هذا البحث أحاول أن أظهر فكرة القرآن في تدريجها حين تعرض للعقائد المسيحيّة. والباحث في نصوص القرآن يلاحظ أنّ الآيات المكّيّة الأولى كثيرة التعاطف مع المسيحيّة، إذ تفيض بالنعومة على المسيح وحواريّيه والقسّيسين والرهبان. ولكنّها في آخر عهد محمّد في المدينة أصبحت قاسية. تتنكّر للمسيحيّين، وترفض ألوهيّة المسيح رفضاً قاطعاً.

ولا ريب في أنّ السبب عقائديّ محض. لأنّ محمّداً رأى في عقيدة الثالوث ما يخالف الوحدانيّة التي نادى بها الإسلام وقامت دعوته عليها. ودفعاً لأيّ احتمال في هذا الموضوع جاءت عدّة نصوص قرآنيّة، تشجب عقيدة الثالوث وتتّهم النصارى بالشرك في الله والغلّو في دينهم.

ولعلّ محمّداً أخذ بثالوث أهل البدع من النصارى الذين كانوا منتشرين في شبه جزيرة العرب، والذين كان ثالوثهم مؤلَّفاً من الله والصاحبة مريم وابنها عيسى. ومع أنّ أحداً من المسيحيّين لم يقل بهذا إطلاقاً، فإنّ المسلمين جعلوا منها مشكلة لا يتنازلون عنها بالرغم من كلّ الإيضاحات التي قدّمها المسيحيّون في كلّ مناسبة.

وثمّة مشكلة أخرى مزمنة سببها نصّ قرآنيّ يقول «وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ» (سورة الصف 61: 6).

في حديث أخرجه أبو جعفر الطبريّ عن معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن الأعلى بن هلال السلميّ، عن عرباض بن سارية، قال: سمعت رسول الله يقول: إنّي عند الله مكتوب لخاتم النبيّين. وأنّ آدم لمنجدل في طينته. وسأخبركم بأوّل ذلك دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، والرؤيا التي رأت أمّي. وكذلك أمّهات النبيّين يرينَ أنّها رأت حين وضعتني أنّه خرج منها نور، أضاءت منه قصور الشام.

ويتمسّك المسلمون بحرفيّة هذه النصوص. فلمّا كان الإنجيل خلواً من أيّة إشارة إلى نبوّة محمّد، ومن أيّ قول بأنّ المسيح بشّر به، قالوا إنّ الإنجيل محرّف.

وهناك مشكلة ثالثة، سببها إيمان المسيحيّين بما جاء في الإنجيل عن آلام المسيح وصلبه كحقيقة أساسيّة لدينهم، بينما القرآن ينفي الصلب، إذ يقول عن اليهود: «وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً»(سورة النساء 4: 157-158).

ومشكلة رابعة سببها إعتقاد المسيحيّين بأنّ المسيح هو ابن الله، وقد شجب القرآن هذا الاعتقاد بسلسلة من الآيات، سأوردها في مكانها من هذه النبذة مع شروح الفقهاء وتعليقاتهم.

2 - ميّزات المسيح في القرآن

بالرغم من اعتراض الإسلام على العقائد المسيحيّة الأساسيّة فإنّ القرآن يضفي على المسيح صفات وكرامات، تجعله فوق مستوى البشر. وهذه الميّزات تنبع من سيرته، ومن رسالته ومن شخصيّته. وحين نقارن بين هذه الميزات والميزات التي ذكرها القرآن للأنبياء والرسل، نرى أنّه لا يعطي أحداً منهم حتّى محمّداً شيئاً من ميّزات المسيح:

1 - الحَبَل العجيب. كما نقرأ في سورة التحريم «وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ»(التحريم 66: 12، الأنبياء 21: 91).

قال الفخر الرازيّ: نفخنا فيه من روحنا، أي في عيسى.. لأنّ عيسى كان في بطنها. واختلفوا في النافخ. قال بعضهم: كان النفخ من الله، لقوله فنفخنا فيه من روحنا. وظاهره أنّ النافخ هو الله تعالى. وقال آخرون النافخ هو جبريل. لأنّ الظاهر من قول جبريل «لأهب لكِ».

ثمّ اختلفوا في كيفيّة النفخ: (1) قول وهب إنّ جبريل نفخ في جيبها حتّى وصل الرحم. (2) في ذيلها فوصلت إلى الفرج. (3) قول السديّ: أخذ بكمّها فنفخ في جنب درعها، فدخلت النفخة صدرها، فحملت. فجاءتها أختها امرأة زكريّا، فالتزمتها. فلمّا التزمتها علمت أنّها حبلى، وذكرت مريم حالها. فقالت امرأة زكريّا، إنّي وجدتُ ما في بطني يسجد لما في بطنك. فذلك قوله «مصدّقاً بكلمة من الله». (4) إنّ النفخة كانت في فمها، ووصلت إلى بطنها فحملت في الحال.

وعن ابن عبّاس أنّه قال: نفخ جبريل في جوف الدرع ومدّه بإصبعه ونفخ فيه، وكلّ ما في الدرع من خرق ونحوه، فإنّه يقع عليه اسم الفرج.

وقيل «أحصنتْ»تكلّفت في عفّتها والمحصّنة العفيفة «ونفخنا فيه مِن روحنا»أي فرج ثوبها. وقيل خلقنا فيه ما يظهر به الحياة في الأبدان. وقال مقاتل في شرح «وصدّقت بكلمات ربّها»يعني بعيسى. ويدلّ عليه قراءة الحسن بكلمة ربّها. وسُمّي عيسى كلمة الله في عدّة مواضع من القرآن.

2 - الولادة العجيبة. يذكر لنا القرآن هذا الحوار بين مريم العذراء وملاك الربّ حين جاء ليبشّرها، قال: «إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً» (مريم 19: 19-21).

وقد علّق البيضاويّ على ولادة يسوع المعجزيّة بقوله: تلك ميّزة تفرّد بها المسيح على العالمين والمرسَلين. لأنّه وُلِد دون أن تضمّه الأصلاب والأرحام الطوامس.

أمّا الفخر الرازيّ، فعلّق على الموضوع هكذا:

(1) العبارة «لأهب لك غلاماً زكيّاً»قال: الزكيّ يفيد أموراً ثلاثة: (الأّول) أنّه الطاهر من الذنوب. (الثاني) أنّه ينمو على التزكية، لأنّه يُقال في مَن لا ذنب له زكيّ، وفي الزرع النامي زكيّ، (الثالث) النزاهة والطهارة.

(2) العبارة «ولنجعله آية للناس ورحمة»أي لنجعل خلقه آية للناس إذ وُلِد من غير ذكر. ورحمة منّا أي يرحم عبادنا بإظهار هذه الآيات، حتّى تكون دلائل صدقه أبهر، فيكون قبول قوله أقرب.

وقال الإمام أبو جعفر الطبريّ في تفسير «غلاماً زكيّاً»وذلك بالاستناد إلى قول أبي عمرو «الغلام الزكيّ هو الطاهر من الذنوب». وكذلك تقول العرب: غلام زاكٍ وزكيّ، وعالٍ وعليّ.

3 - كونه مباركاً - نقرأ في سورة مريم هذه العبارات عن لسان المسيح: «وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ» (مريم 19: 31).

قال الطبريّ عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان، إن تفسير «جعلني مباركاً»هو جعلني معلّماً للخير.

وعن سليمان بن عبد الجبّار، عن محمد بن يزيد بن خنيس المخزوميّ، قال: سمعت ابن الورديّ مولى بني مخزوم، قال: لقي عالم لما هو فوقه من العلم. فقال له: يرحمك الله، ما الذي أُعلِن من علمي؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده. وقد أجمع الفقهاء على قول الله «وجعلني مباركاً أينما كنتُ».

4 - كونه مؤيَّداً بالروح القدس - «وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ» (سورة البقرة 2: 253).

قال ابن عبّاس: إنّ روح القدس، هو الاسم الذي كان يُحيي به عيسى الموتى. وقال أبو مسلم: إنّ روح القدس الذي يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه، وأبانه بها عن غيره ممّن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى.

«ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرَوُحٌ مِنْهُ فَٱمِنُوا بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ» (سورة النساء 4: 171).

وخلاصة هذه الآيات، أنّ الله أعطى عيسى في ذاته روحاً، وأنّ هذا الروح يؤيّده في شخصيّته. ومع ذلك فقد اختلف علماء الإسلام في تفسير الروح القدس الذي تأيّد المسيح به:

قال ابن أنس: «هو الروح الذي نفخ في المسيح، أضافه الله إلى نفسه تكريماً وتخصيصاً. والقدس هو الله، يدلّ عليه قوله فنفخنا فيه من روحنا».

وقال السديّ وكعب: «روح القدس هو جبريل. وتأييد عيسى بجبريل هو أنّه كان قرينه ورفيقه، يعينه ويسير معه حيثما سار، إلى أن صعد به إلى السماء».

وقال ابن جبير: «روح القدس هو اسم الله الأعظم، وبه كان عيسى يحيي الموتى».

وقال القاشانيّ: «الله خاصة طهّر جسم عيسى عن الأقذار الطبيعيّة، فهو روح متجسّد في بدن مثاليّ روحانيّ. وذلك من صفاء جوهر طينته ولطافتها وصفاء طينة أمّه وطهارتها. ونزَّه روحه وقدّسه من التأثّر بالهيئات الطبيعيّة والصفات المدنيّة، لتأييده بروح القدس الذي هو على صورته».

وقال ابن عطا: «إنّ أحسن النبات ما كان ثمرته مثل عيسى روح الله».

وقال ابن عبّاس: «إنّه الروح الذي نفخ فيه، والقدس هو الله فهو إذاً روح الله».

5 - رفعته عند وفاته - إذ نقرأ في سورة آل عمران «وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا..» (آل عمران 3: 55).

قال الفخر الرازيّ: لتفسير هذه الآية عدّة وجوه منها:

الوجه الأوّل: المراد (بالرفعة إنّي رافعك) إلى محلّ كرامتي. وجعل ذلك رفعاً إليه للتفخيم والتعظيم. ومثلها قوله: إنّي ذاهب إلى ربّي (هذه العبارة مستعارة من الإنجيل).

الوجه الثاني: في التأويل أن يكون قوله «ورافعك إليّ»معناه أنّه يرفعه إلى مكان لا يملك أحد الحكم عليه فيه. لأنّ في الأرض قد يتولّى الخلق أنواع الأحكام، أمّا في السموات فلا حاكم في الحقيقة وفي الظاهر إلاّ الله.

6 - عصمته في رسالته كما في سيرته - يتوهّم البعض أنّ العصمة في الرسالة تقترن حتماً بالعصمة في السيرة ولكنّ نصوص القرآن تنقض هذا الوهم. إذ نقرأ في سوره الكثير من النصوص التي تفيد أنّ حياة الأنبياء لم تكن بلا لوم، لا قبل الرسالة ولا بعدها. أمّا المسيح في القرآن فسيرته معصومة كرسالته. فقد شهد الملاك بذلك إذ قال لأمّه: «أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً». وقد قال البيضاويّ في تفسير كلمة زكيّ إنّ عيسى كان مترقّياً من سنّ إلى سنّ.

7 - تَفرُّد رسالته بالمعجزات - فكما انفردت رسالته على الرسالات جميعاً بتأييد الروح القدس، انفردت أيضاً بالمعجزات وباستجماعها، كما لم تجتمع لغيره. إذ نقرأ في سورة البقرة 2: 253 «وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ»والبينات هي العجائب.

قال البيضاويّ: لقد خصّه الله بالتعيين وجعل معجزاته سبب تفضيله على الرسل. لأنّها آيات واضحة، ومعجزات عظيمة، لم يستجمعها غيره.

8 - علمه بالغيب - جاء في سورة الزخرف 43: 57 و61 «وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ... وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ».

قال الجلالان في تفسير «لعلم للساعة»إنّه عيسى لعلم الساعة يعلم بنزولها. ومتى ذكرنا أنّ المعروف عند الناس أن الله ينفرد عن خلقه بأنه وحده عنده علم الساعة، ندرك الميزة التي أفردها القرآن للمسيح.

9 - إنّه الشفيع المقرَّب - جاء في سورة الزمر 39: 44 نرى أنّ القرآن يحصر الشفاعة لله وحده، إذ يقول «لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً». ومع ذلك، فأحد نصوص القرآن يلمّح إلى كون الشفاعة أيضاً من إمتيازات المسيح إذ يقول: «إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ»(سورة آل عمران 3: 45).

قال الجلالان في تفسير هذه الآية: وجيهاً في الدنيا بالنبوّة، وفي الآخرة بالشفاعة والدرجات العُلى، ومن المقرّبين عند الله.

وأخرج الطبريّ عن ابن حميد، عن سلمة عن ابن إسحاق، عن محمّد بن جعفر، قال: «وجيهاً في الدنيا»أي ذو وجه ومنزلة عند الله، وفي الآخرة ومن المقرَّبين يعني أنّه ممَّن يقرّبه الله يوم القيامة فيسكنه في جواره ويدنيه منه.

وقال الرازيّ «وجيهاً في الدنيا»بسبب أنّه يُستجاب دعاؤه، ويحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ووجيه في الآخرة أنّه يجعله شفيع أمّته.

أمّا قوله «ومن المقرَّبين»ففيه وجوه:

الأّول أنّه تعالى جعل ذلك بالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم ودرجتهم في هذه الصفة.

الثاني، إنّ هذا الوصف كالتنبيه على أنّه سيرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة.

الثالث، إنّه ليس كلّ وجيه في الآخرة يكون مقرّباً. لأنّ أهل الجنّة على مراتب ودرجات.

3 - معجزات المسيح في القرآن

1 - الخَلْق - جاء في القرآن: «إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ... إِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي» (سورة المائدة 5: 110).

قال ابن العربيّ في تفسير هذه الآية: لقد خصّ الله عيسى بكونه روحاً. وأضاف النفخ في خلقه من الطين. ولم يضف نفخاً في إعطاء الحياة لغير عيسى، بل لنفسه تعالى.

2 - النطق عند الولادة - حين ولدت مريم ابنها، تناولها أبناء قومها بالتأنيب، ظنّاً بأنّها حملت بابنها سفاحاً. «فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً» (سورة مريم 19: 29 ، 30).

قال ثقات العلماء إنّ قوم مريم لمّا بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إلى وليدها، كأنّها تقول لهم: هو الذي يجيبكم.

وقال السديّ: لمّا أشارت إليه غضبوا غضباً شديداً. وقالوا: إنّ لسخريتها بنا أشدّ من زناها. وفي رواية أخرى أنّ عيسى كان يرضع، فلمّا سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه، واتّكأ على يساره وأشار بسبابته وكلّمهم.

هناك رواية أخرى نقلها الرازي: إنّ زكريّا أتاها عند مناظرة اليهود إيّاها، فقال لعيسى انطق بحجّتك إن كنت أُمرت بها، فقال عيسى: «إنّي عبد الله آتاني الحكمة وجعلني نبيّاً».

3 - إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص - يقول القرآن بلسان المسيح: «أُبْرِئُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِي ٱلْمَوْتَى بِإِذْنِ ٱللَّهِ»(سورة آل عمران 3: 49).

من المعروف أنّ الأكمه هو من وُلِد أعمى. والبرص هو المرض الخطير المعروف، والمرضان من الأدواء التي يتعذّر شفاؤهما على البشر. وقد ذكر المثنّى عن ابن إسحاق عن حفص بن عمر، عن عكرمة، قال: إنّما أخبر الله عزّ وجلّ عن عيسى أنّه يقول ذلك لبني إسرائيل احتجاجاً منه بهذه العبر والآيات عليهم في نبوّته. وذلك أنّ الكَمَهَ والبرص لا علاج لهما، فكان ذلك من أدلّته على صدق قلبه.

«وأحيي الموتى». قال وهب بن منبّه، بينما كان عيسى يلعب مع الصبيان، إذ وثب غلام على صبيّ فوكزه برجله فقتله، فألقاه بين يدي عيسى وهو ملطّخ بالدم. فأطلع الناس عليه، فاتّهموه به. فأخذوه وانطلقوا به إلى قاضي مصر، فقالوا: هذا قتل. فسأله القاضي، فقال عيسى: لا أدري مَن قتله، وما أنا بصاحبه. فأرادوا أن يبطشوا بعيسى، فقال لهم: أئتوني بالغلام. فقالوا: ماذا تريد؟ قال: أسأله من قتله؟ فقالوا: كيف يكلّمك وهو ميت؟ فأخذوه، وأتوا به إلى الغلام القتيل. فأقبل عيسى على الدعاء، فأحياه الله.

عن وهب أيضاً قوله: إنّه ربّما اجتمع على عيسى من المرضى، في الساعة الواحدة خمسون ألفاً. مَن أطاق منهم أن يبلُغه بَلَغه، ومَن لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه، وإنّما كان يداويهم بالدعاء.

وعن الكلبيّ، أنّه قال: كان عيسى عليه السلام يحيي الموتى بيا حيّ يا قيوم. وأحيا عاذر (يقصد لعازر) وكان صديقاً له. ودعا سام بن نوح من قبره فخرج حيّاً. ومرّ على ابن ميت لعجوز فدعا الله فنزل عن سريره، ورجع إلى أهله ووُلد له.

4 - العلم بالغيب. قال القرآن بلسان المسيح «وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» (سورة آل عمران 3: 49).

هنا يجد العلماء مسألتين:

المسألة الأولى: أنّه كان منذ أوّل أمره يخبر بالغيوب. فقد روى السديّ: إنّه كان يلعب مع الصبيان، ثمّ يخبرهم بأفعال آبائهم وأمّهاتهم. وكان يخبر الصبيّ: إنّ أمّك قد خبّأت لك كذا. فيرجع الصبيّ إلى أهله ويبكي، إلى أن يأخذ ذلك الشيء. ثمّ قالوا لصبيانهم: لا تلعبوا مع هذا الساحر. وجمعوهم في بيت. فجاء عيسى يطلبهم، فقالوا له: ليسوا في البيت. فقال: فمَن في هذا البيت؟ قالوا: خنازير. قال عيسى: كذلك يكونون، فإذا هم خنازير.

المسألة الثانية: الإخبار عن الغيوب على هذا الوجه معجزة. فالمنجّمون الذين يدّعون استخراج الخبر لا يمكنهم ذلك إلاّ عن سؤال. ثمّ يعترفون بأنّهم يغلطون كثيراً. أمّا الإخبار عن الغيب، من غير استعانته بآلته، ولا تقدّم فيه مسألة، لا يكون إلاّ بالوحي.

5 - إنزال المائدة من السماء. يقول القرآن «إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ قَالَ ٱتَّقُوا ٱللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱلَّلهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَاِئدَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ» (سورة المائدة 5: 112-114).

اختلف الأئمّة في صفة نزول المائدة وكيفيّتها وما كان عليها. فروى قتادة عن جابر، عن ياسر بن عمّار عن محمّد أنّه قال: أُنزلت المائدة عليها خبز ولحم. وذلك أنّهم سألوا عيسى طعاماً يأكلون منه، ولا ينفد. فقال لهم: إنّي فاعل ذلك، وإنّها مقيمة لكم، ما لم تخبّئوا أو تخونوا. فإن فعلتم ذلك عُذِّبتُم. فما مضى يومهم حتّى خانوا وخبّأوا، فرُفعت ومُسِخوا قردة وخنازير.

وقال ابن عبّاس: قال عيسى لبني إسرائيل: صوموا ثلاثين يوماً، ثمّ سلوا الله ما شئتم يعطيكموه. فصاموا ثلاثين يوماً، فلمّا فرغوا، قالوا: يا عيسى إنّا صمنا فجعنا، فادعُ الله أن ينزل مائدة من السماء. فلبس عيسى المسوح، وافترش الرماد. ثمّ دعا الله، فأقبلت الملائكة بمائدة يحملون عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات، ووضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس، كما أكل أوّلهم.

4 - بُنوّة المسيح في القرآن

يرى المتأمِّل في شخص المسيح، من خلال القرآن، أنّ موضوع بُنوّته يثير جدليّة القرآن وفيه خمس نظريّات:

1 - الكفر: كقول القرآن: «مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (سورة مريم 19: 35).

«وَقَالُوا ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَانُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَانِ عَبْداً»(سورة مريم 19: 88-93).

جاء في كتاب التفسير الكبير للفخر الرازيّ: اعلم أنّه تعالى لمّا ردّ على عبدة الأوثان عاد إلى الردّ على من أثبت له ولد. (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) وقالت العرب الملائكة بنات الله. والكلّ داخلون في هذه الآية.

والكلمة جئتم «شيئاً إدّاً» تعني المُنكَر العظيم. لذلك عنى بانفطار السماء وانشقاق الأرض وخرور الجبال غضبه على مَن تفوّه بهذا القول «اتّخذ الرحمَن ولداً».

2 - ضمّ جزء من المخلوق إلى الخالق - كقوله: «وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ ٱلإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِٱلْبَنِينَ» (سورة الزخرف 43: 15 و16).

ومن هنا انطلق السؤال: أيّة نسبة بين الخالق والمخلوق حتّى يضمّ جزءاً من المخلوق إلى خالقه؟ يستحيل ذلك فطرة وعقلاً. وأيضاً انطلقوا من القول «إنْ كلّ ما في السموات والأرض إلاّ آتي الرحمن عبداً»ليقولوا: لا يمكن للعبد أن يكون ربّاً. ومن القول «بديع السموات والأرض»قالوا: لا يمكن أن يكون المخلوق خالقاً.

ونحن كمسيحيّين نقرّ هذا أنّه لا يجوز أن يُضمّ جزء إلى الله من خلائقه ولكن في عقيدتنا لا ينطبق هذا على العلاقة القائمة بين الآب والابن. لأنّ الابن ذو جوهر واحد مع الآب. والقرآن يقول إنّ المسيح هو كلمة الله وروح منه. فضمُّ جزءٍ إلى الله من مخلوقاته ليس وارداً في شأن المسيح.

3 - الابن لا يكون إلاّ بالولادة من ذكر وأنثى هنا تكمن المشكلة، في مفهوم الإسلام للبنوّة إذ يقول القرآن «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ؟» (سورة الأنعام 6: 101).

وقد علّق البيضاوي على الآية بقوله إنّ المعقول من الولد هو ما يتولّد من ذكر وأنثى متجانسَين، والله تعالى منّزه عن التجانس.

هذه هي نظريّة الإسلام في استحالة الولد إلى الله، فإنّه لا صاحبة له. ولا يمكن أن تكون له صاحبة. وهذا هو سرّ استنكار أُبوّة الله للمسيح. لأنّه لا بُنوّة في الفكر القرآنيّ إلا البنوّة التناسليّة الجسديّة. وممّا يؤيّد ذلك ما جاء في كتاب جامع البيان للطبري، عن ابن وهب عن أبي زيد أنّه قال: الولد إنّما يكون من الذكر والأنثى، ولا ينبغي أن يكون لله سبحانه صاحبة، فيكون له ولد. وذلك أنّه هو الذي خلق كلّ شيء. فإذا كان لا شيء إلاّ الله خلقه، فأنّى يكون له ولد؟

ويرجّح ثقات الباحثين أنّ الآية نزلت في حقّ بعض أهل البدع من أصل وثنيّ، الذين التصقوا بالكنيسة، وكانت لهم محاولة ليُدخلوا فيها بدعة مفادها أنّ مريم العذراء إلهة. ولعلّهم استعاضوا بها عن الزهرة، التي كانوا يعبدونها قبلاً. وقد أشار إليهم العلاّمة الكبير أحمد المقريزي في كتابه «القول الإبريزي» صفحة 26. وذكرهم ابن حزم في كتابه «الملل والأهواء والنحل»صفحة 48. وبما أنّ بدعتهم تفترض اتّخاذ الله صاحبة وإنجاب ولد منها، فبديهيّ أن يشجبها القرآن.

لكنّ هذه الفكرة بعيدة كلّ البعد عن المسيحيّة، وليس ثمّة مسيحيّ واحد يؤمن بها. لأنّها إهانة موجَّهة إلى جلال الله القدّوس، المنزَّه عن كلّ خصائص الجسد.

والحقيقة أنّ الباحث في عقيدة المسيحيّين المبنيّة على الإنجيل، يرى أنّهم لا يقولون إطلاقاً بأنّ المسيح ابن الله على طريقة الاستيلاد من صاحبة، بل يؤمنون بأنّه ابن الله على طريقة الصدور منه في الوجود الإلهيّ، بصفة كونه «الكلمة الذي كان في البدء عند الله»وقد حُبِل به من الروح القُدُس.

وقد أشار الرسول العظيم بولس إلى هذه الحقيقة بقوله «بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْمَدْعُوُّ رَسُولاً، ٱلْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي ٱلْكُتُبِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، عَنِ ٱبْنِهِ. ٱلَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ، وَتَعَيَّنَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (رومية 1: 1-4).

4 - كان يأكل الطعام - كقوله «مَا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (سورة المائدة 5: 75).

ففكر الإسلام هنا يقول إنّ استحالة الألوهة على المسيح ظاهرة من بشريّته. فمَن يأكل الطعام كيف يكون إلهاً؟

ويقول الرازيّ في تفسير الآية:

أ - إنّ كلّ مَن كان له أمّ فقد حدث، بعد أن لم يكن. وكلّ مَن كان كذلك كان مخلوقاً لا إلهاً.

ب - إنّهما كانا محتاجَين إلى الطعام أشدّ الحاجة، والإله هو الذي يكون غنيّاً عن جميع الأشياء. فكيف إذاً يكون المسيح إلهاً.

ج - قوله «كانا يأكلان الطعام»كناية عن الحدث. لأنّ مَن أكل الطعام لا بدّ وأن يحدث وهذا عندي ضعيف.

5 - عجز المخلوق عن النفع والضرّ - كقوله «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ» (سورة المائدة 5: 76).

يتّخذ المفسّرون هذه الآية دليلاً على فساد قول النصارى وقد قالوا إنّه يحتمل أنواعاً من الحجّة:

أ - إنّ اليهود كانوا يعادونه ويقصدونه بالسوء، فما قدر على الإضرار بهم. وكان أنصاره وصحابته يحبّونه، فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم. والعاجز عن الإضرار والنفع، كيف يُعقَل أن يكون إلهاً.

وتغطية لهذا التفسير، قال البيضاويّ: إنّ عيسى وإن ملك هذا الامتياز بتمليك الله إيّاه، لا يملكه من ذاته.

ونحن نقول: لو كان يسوع مجرّد عيسى القرآن، عيسى العبد لسلّمنا بأنّه لا يملك من ذاته ضرّاً ولا نفعاً. ولكنّ يسوع كما قال إشعياء النبيّ «إلهاً قديراً». ونحن نشكره لأنّ رسالته لم تكن للضرر ولا للنفع المادّي. بل كانت رسالة خلاص، والقرآن نفسه قال إنّه جاء رحمةً للعالمين.

ب - إنّ مذهب النصارى يقول إنّ اليهود صلبوه ومزّقوا أضلاعه. ولمّا عطش، وطلب الماء منهم، صبّوا الخلّ في منخريه. ومَن كان في الضعف هكذا، كيف يُعقَل أن يكون إلهاً؟

ج - إنّ إله العالم يجب أن يكون غنيّاً عن كلّ ما سواه. ويكون كلّ ما سواه محتاجاً إليه، فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولاً بعبادة الله تعالى. لأنّ الإله لا يعبد شيئاً، إنّما العبد هو الذي يعبد الإله. ولمّا عُرف بالتواتر كونه كان مواظباً على الطاعات والعبادات، علمنا أنّه إنّما كان يفعلها لكونه محتاجاً في تحصيل المنافع، ودفع المضارّ إلى غيره. ومَن كان كذلك، كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد، ودفع المضارّ عنهم؟ وإذ كان كذلك كان عبداً كسائر العبيد.

5 - لاهوت المسيح في الإسلام

لعلّ الخلاف الأكبر في الحوار بين المسيحيّة والإسلام، هو القائم على اعتقاد المسيحيّين بألوهيّة المسيح، الأمر الذي يحسبه القرآن كفراً. وقد اعترض عليه بعدّة آيات أبرزها أربع وردت في سورة المائدة، وآية خامسة في سورة النساء:

1 - «لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً» (سورة المائدة 5: 17).

يقول الرازيّ في شرح هذه الآية إنّ فيها سؤالاً، وهو أنّ أحداً من النصارى لا يقول إنّ الله هو المسيح ابن مريم. فكيف حكى الله عنهم ذلك، مع أنّهم لا يقولون؟ وجوابه: إنّ كثيرين من الحلوليّة يقولون إنّ الله تعالى قد يحلّ ببدن إنسان معيّن أو في روحه. وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يُقال: إن قوماً من النصارى ذهبوا إلى هذا القول. بل هذا أقرب ما يذهب إليه النصارى. وذلك لأنّهم يقولون: إنّ أقنوم الكلمة اتّحد بعيسى.

فأقنوم الكلمة، إمّا أن يكون ذاتاً أو صفة. فإن كان ذاتاً، فذات الله تعالى قد حلّت في عيسى، واتّحدت بعيسى. فيكون عيسى الإله، على هذا القول. وإن قلنا الأقنوم عبارة عن الصفة، فانتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول.

ثمّ بتقدير انتقال أقنوم العلم عن ذات الله تعالى إلى عيسى، يلزم خلّو ذات الله من العلم. ومَن لم يكن عالِماً لم يكن إلهاً. وحينئذٍ يكون الإله عيسى على قولهم. فثبت أنّ النصارى، وإن كانوا لا يصرّحون بهذا القول، إلاّ أنّ حاصل مذهبهم ليس إلاّ ذلك.

ثمّ أنّ الله سبحانه، احتجّ على فساد هذا المذهب بقوله: «مَن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمّه»فهذه الكلمة بحسب رأي المفسّرين تعني أنّ عيسى مُشاكِلٌ لِمَن في الأرض، في الصورة والخلقة والجسميّة والتركيب، وتغيير الصفات والأحوال.

2 - «لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ» (سورة المائدة 5: 72).

قال الإمام الرازي في شرح هذه الآية: إنّ الله لمّا استقصى الكلام مع اليهود، شرع ههنا في الكلام مع النصارى، فحكى عن فريق منهم أنّهم قالوا: إنّ الله تعالى حلّ في ذات عيسى، واتّحد بذات عيسى.

3 - «لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (سورة المائدة 5: 73).

ينطلق الإسلام من هذه الآية فيتّهم المسيحيّين بأنّهم يعبدون ثلاثة آلهة: الله ومريم وعيسى.

ويستعرض الرازي عقيدة النصارى على الوجه التالي: حكوا عن النصارى أنّهم يقولون جوهر واحد، ثلاثة أقانيم، آب وابن وروح القدس. وهذه الثلاثة إله واحد، كما أنّ اسم الشمس يتناول القرص والشعاع والحرارة. وعنوا بالآب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة. وأثبتوا الذات والكلمة والحياة. وقالوا: إنّ الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى، اختلاط الماء بالخمر، واختلاط الماء باللبن. وزعموا أنّ الآب إله، والابن إله والروح إله.

ويختم الرازي شرحه بهذا التعليق: واعلم أنّ هذا معلوم البطلان ببديهيّة العقل. فإنّ الثلاثة لا تكون واحداً والواحد لا يكون ثلاثة.

4 - «وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ» (سورة المائدة 5: 116).

يجد الرازي في هذا القول مسائل:

المسألة الأولى. أنّه معطوف على قول الله: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك، فهو يذكّره هنا بوجاهته يوم القيامة.

المسألة الثانية. أنّ الله وهو علاّم الغيوب كان عالماً بأنّ عيسى لم يقل ذلك. فليس لائقاً بعلاّم الغيوب أن يسأله. فلماذا يخاطبه؟ إن قلتم إنّ الغرض منه توبيخ النصارى وتقريعهم، فنقول إنّ أحداً من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهيّة عيسى ومريم من دون الله. فكيف يجوز أن يُنسَب هذا القول لهم، مع أنّ أحداً لم يقل به؟

والجواب عن السؤال الأول، أنّه استفهام على سبيل الإنكار.

والجواب على السؤال الثاني: أنّ الإله هو الخالق. والنصارى يعتقدون أنّ خالق المعجزات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى، والله ما خلقها البتّة. وإذا كان كذلك فالنصارى قد قالوا إنّ خالق تلك المعجزات هو عيسى ومريم، والله تعالى ليس خالقها. فصحّ أنّهم أثبتوا في حقّ بعض الأشياء كون عيسى ومريم إلهَين له. مع أنّ الله تعالى ليس إلهاً. فصحّ بهذا التأويل هذه الحكاية والرواية.

وعلى أيّ حال، فقد اختلف مفسّرو القرآن في تحديد الوقت الذي فيه طرح الله هذا السؤال على عيسى.

فالسديّ مثلاً يقول إنّ الله لمّا رفع عيسى ابن مريم إليه سأله: أأنت قلتَ للناس اتّخذوني وأمّي إلهَين؟

أمّا قتادة فيقول: إنّ السؤال لم يُطرَح بعد، وإنّما سيُطرَح في القيامة. ويوافقه في رأيه ابن جريج وميسرة.

5 - «يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرَوُحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ ٱنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ» ( سورة النساء 4: 171).

قال أبو جعفر الطبريّ في تفسير هذه الآية: يا أهل الإنجيل من النصارى لا تجاوزوا الحقّ في دينكم فتفرّطوا فيه، ولا تقولوا في عيسى غير الحقّ... انتهوا أيّها القائلون: الله ثالث ثلاثة، عمّا تقولون من الزور والشرك بالله. فإنّ الانتهاء عن ذلك خير لكم من قيله، لما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم على قيلكم ذلك، إن أقمتم عليه ولم تنيبوا إلى الحقّ الذي أمرتكم بالإنابة إليه، والأجل في معادكم.

فالمشكلة المعقّدة في الإسلام هو الاعتقاد بأنّ التثليث يعني ثلاثة آلهة: الله والمسيح ومريم. والمسيحيّة مدى أجيالها نادت، سواء كان قبل الإسلام أم بعده، أنّ كلمة تثليث ليست واردة. إنّها أوهام أهل البدع الذين نبذتهم الكنيسة وشجبت البدع التي اخترعوها، فالتصقوا بعرب الجاهليّة، ومنهم أخذ الإسلام الفكر المشوّه عن المسيحيّة.

6 - ناسوت المسيح في الإسلام

1 - عبدٌ لا ربّ: كقول القرآن بلسان المسيح «إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً» (سورة مريم 19: 30-32).

جاء في التفسير الكبير للإمام الرازيّ أنّ في هذه الكلمة «عبد الله»أربع فوائد:

الفائدة الأولى: إنّه رفع الوهم عن الذي ذهبتْ إليه النصارى من أنّه إله.

الفائدة الثانية: إنّ المسيح لمّا أقرّ بالعبوديّة، فإن كان صادقاً في مقاله فقد حصل الغرض. وإن كان كاذباً لم تكن القوّة قوّة إلهيّة، بل قوّة شيطانيّة، فعلى التقديرَين يبطل كونه إلهاً.

الفائدة الثالثة: إنّ الذي اشتدّت الحاجة إليه في ذلك الوقت، إنّما هو نفي تهمة الزنا عن مريم. ثمّ أنّ عيسى لم ينصّ على ذلك، وإنّما نصّ على إثبات عبوديّة نفسه. كأنّه جعل إزالة التهمة عن الله تعالى أَوْلى من إزالة التهمة عن الأمّ.

الفائدة الرابعة: إنّ التكلّم بإزالة هذه التهمة عن الله يفيد إزالة التهمة عن الأمّ. لأنّ الله لا يخصّ الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية والمرتبة العظيمة.

ثمّ يعلّق على اعتقاد النصارى بلاهوت المسيح، فيقول: «إنّ مذهب النصارى متخبّط جدّاً. فقد اتّفقوا أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بجسم ولا متحيّز ومع ذلك فإنّا نذكر تقسيماً يبطل مذهبه على جميع الوجوه. فنقول: إمّا أن يعتقدوا كونه متحيّزاً، أبطلنا قولهم على حدوث الأجسام. وإن اعتقدوا أنّه ليس متحيّزاً فحينئذٍ يبطل قولهم من أنّ الكلمة اختلطت بالناسوت اختلاط الماء بالخمر وامتزاج النار بالفحم. لأنّ ذلك لا يُعقَل إلاّ في الأجسام».

ونحن نعتقد أنّ فكر القرآن بالنسبة لشخص المسيح قائم على حقيقتَين تحملان سرّاً لا يدركه الإنسان الطبيعيّ:

أ - إنّ المسيح بصفة كونه ابن مريم، هو عبد الله. وهذا التعبير ورد في لغة الأنبياء. فقد جاء في إشعياء 52: 13 و53: 11 «هُوَذَا عَبْدِي يَعْقِلُ، يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدّاً... وَعَبْدِي ٱلْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا».

ب - إنّ هذه الصفة «عبد»لا تستطيع أن تنفي القول القرآنيّ بأنّه «كلمة ألقاها إلى مريم وروح منه».

والمتأمّل بعمق في هذا النصّ القرآنيّ المزدوج، يلاحظ من خلاله إعلان بولس، أنّ يسوع «صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ، وَتَعَيَّنَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (رومية 1: 1-4).

2 - المسيح مثل آدم، كقوله «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (سورة آل عمران 3: 59).

جاء في جامع البيان لأبي جعفر الطبريّ أنّ الله قال: يا محمّد أخبر نصارى نجران أنّ شَبَه عيسى في خلقي إيّاه من غير فحل، كشبه آدم الذي قلتُ له كُن فيكون، من غير فحل ولا ذكر ولا أنثى. فليس خلقي عيسى من أمّه من غير فحل بأعجب من خلق آدم.

وعن محمّد بن سعد، عن أبيه، عن ابن عبّاس، قال: جاء رهط من أهل نجران، قدموا على محمّد، وكان فيهم السيّد والعاقب. فقالوا لمحمّد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال مَن هو؟ فقالوا عيسى، تزعم أنّه عبد الله. فقال محمّد: أجل إنّه عبد الله. فقالوا: هل رأيت مثل عيسى أو أُنبئتَ به؟ ثمّ خرجوا من عنده. فجاءه جبريل بأمر ربّنا السميع العليم، فقال: قُل لهم إذا أتوك إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم.

وفي رواية أخرى عن محمّد بن الحسين، عن أحمد بن المفضّل عن السدي، قال: لمّا بُعث محمّد وسمع به أهل نجران، أتاه أربعة من خيارهم: العاقب والسيّد وماسرجس وماريجز فسألوه ما يقول في عيسى؟ فقال هو عبد الله وروحه وكلمته. قالوا «لا. هو الله، نزل من ملكه، فدخل في جوف مريم، ثمّ خرج منها فأرانا. فهل رأيت قطّ إنساناً وُلِد من غير أبٍ؟!»فأنزل الله عزّ وجلّ أنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم.

وفي رواية ثالثة، عن القسام، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: بلغنا أنّ نصارى نجران، قدم وفدهم على محمّد، فيهم العاقب والسيّد. فقالا: يا محمّد لِمَ تشتم صاحبنا؟ قال مَن هو صاحبكما؟ قالا عيسى ابن مريم. تزعم أنّه عبد. قال: أجل إنّه عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فغضبوا منه، وقالوا: إن كنتَ صادقاً فأرِنا عبداً يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتصير طيراً، لكنّه إله. فسكت حتّى أتاه جبريل فقال: يا محمّد لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم. فقال محمّد: يا جبريل إنّهم سألوني أن أخبرهم بمثل عيسى، فقال جبريل: إنّ مثل عيسى، كمثل آدم.

7 - المسيح في الكتاب المقدّس

1 - لاهوت المسيح. لا بدّ للباحث في المسيحيّة، أن يقف أمام عدد من القضايا الخطيرة. ولعلّ أخطرها لاهوت المسيح. وأعني بكلمة لاهوت المسيح، اعتقاد المسيحيّين بأنّ يسوع، الذي وُلِد من مريم العذراء في فلسطين، وعاش على أرضنا ردحاً من الزمن، هو ابن الله والله الابن.

قد يبدو هذا الاعتقاد صعباً لكثيرين، إلاّ أنّ الصعوبة لا تضير المسيحيّة في كونها ديناً واحداً صحيحاً، لأنّ اعتقاد المسيحيّين لا يستلزم وجود سابق ولاحق، وأكبر وأصغر، أو ما شابه ذلك. بل أنّ الله واحد، وإنّما أُعلن لنا بهذه الأسماء، لكي يُظهر ترتيب عمل الفداء.

وقبل الانطلاق في التأمّل في لاهوت المسيح، ينبغي أن نتوقّف قليلاً أمام الإعلانات المعروفة في الكتاب المقدّس عن أُبوّة الله للمسيح:

أ - إعلانات الآب: قال ملاك الله لمريم العذراء «هَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى» (الإنجيل بحسب لوقا 1: 31 و32).

وحين وُلد يسوع تمّت النبوّة القائلة في إشعياء «وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ ٱلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ «عِمَّانُوئِيل» (إشعياء 7: 14 والإنجيل بحسب متّى 1: 23).

«فَلَمَّا ٱعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ ٱلْمَاءِ، وَإِذَا ٱلسَّمَاوَاتُ قَدِ ٱنْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ ٱللّٰهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ»(الإنجيل بحسب متّى 3: 16-17).

فيما كان يسوع مع ثلاثة من تلاميذه على جبل حرمون، تكلّم مع موسى وإيليّا «وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ، وَصَوْتٌ مِنَ ٱلسَّحَابَةِ قَائِلاً: هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ ٱسْمَعُوا» (الإنجيل بحسب متّى 17: 5).

ب - إعلانات المسيح، قال المسيح في أحد أمثاله «أَنَا ٱلْكَرْمَةُ ٱلْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي ٱلْكَرَّامُ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 15: 1).

وقال أيضاً «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ... مِنْ يَدِ أَبِي» (الإنجيل بحسب يوحنّا 10: 27-29).

وقال في خطابه الوداعيّ «إِنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي. وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِٱسْمِي فَذٰلِكَ أَفْعَلُهُ لِيَتَمَجَّدَ ٱلآبُ بِٱلٱبْنِ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 14: 12 و13).

وحين افتخر اليهود أمام المسيح بكون موسى أعطاهم المنّ في البرّيّة، قال لهم «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ ٱلْخُبْزَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ ٱلْخُبْزَ ٱلْحَقِيقِيَّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 6: 32).

وقال لآخرين «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ ٱلٱبْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ ٱلآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهٰذَا يَعْمَلُهُ ٱلٱبْنُ كَذٰلِكَ. لأَنَّ ٱلآبَ يُحِبُّ ٱلٱبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ، وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هٰذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلآبَ يُقِيمُ ٱلأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذٰلِكَ ٱلٱبْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ. لأَنَّ ٱلآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلٱبْنِ، لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلٱبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ ٱلٱبْنَ لاَ يُكْرِمُ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 5: 19-23).

«اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ يَسْمَعُ ٱلأَمْوَاتُ صَوْتَ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، وَٱلسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 5: 25).

«ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ ٱلْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ. وَٱلْعَبْدُ لاَ يَبْقَى فِي ٱلْبَيْتِ إِلَى ٱلأَبَدِ، أَمَّا ٱلٱبْنُ فَيَبْقَى إِلَى ٱلأَبَدِ. فَإِنْ حَرَّرَكُمْ ٱلٱبْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً» (الإنجيل بحسب يوحنّا 8: 34-36).

وقال في حوار مع آخرين «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى ٱلآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ. فَمِنْ أَجْلِ هٰذَا كَانَ ٱلْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ ٱلسَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضاً إِنَّ ٱللّٰهَ أَبُوهُ، مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِٱللّٰهِ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 5: 17-18).

وقال لسامعيه ذات يوم «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلٱبْنَ إِلاَّ ٱلآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلاَّ ٱلٱبْنُ وَمَنْ أَرَادَ ٱلٱبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ. تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (الإنجيل بحسب متّى 11: 27-28).

حين نتأمّل هذا الإعلان بعمق، يظهر لنا أنّه لا إنسان عاديّ، ولا نبيّ رسول، ولا ملاك من السماء، ولا رئيس ملائكة، يستطيع أن يدرك سرّ شخص يسوع المسيح العجيب كما قال إشعياء النبيّ. وهذا يعني صراحة أنّ طبيعة المسيح غير محدودة، بحيث لا يقدر أحد أن يدركه إلاّ الآب. ويقيناً لو أنّ المسيح مجرّد إنسان عادي، لما صحّ أن يقول هذا القول. وممّا لا ريب فيه، أنّ هذا الإعلان المجيد جدّاً يعلّمنا أنّ من وظيفة المسيح باعتبار وحدته أزليّة مع الآب، أن يعلن لنا هذا الآب الذي وُصِف باللامنظور.

قد يبدو هذا الإعلان الذي صرّح به المسيح كلغز صعب الفهم. ولكنّ الروح القدس ألهم البشير يوحنّا، ليوضحه لنا في سلسلة من الآيات، أبرزها: «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلٱبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 1: 18). هذه الآية تؤكّد لنا أنّ أحداً من الناس والملائكة، لم يرَ الله أو يعرفه المعرفة التي تجعله يُلمّ بصفاته الإلهيّة. وإنّما يستطيع أن يبلّغ الناس ما أُعلِن له بالوحي أو بالرؤيا. فموسى وغيره من الأنبياء لم يروا الله. ولكنّهم تلقّوا الإعلانات بالوحي، وكان مصدرهم الأقنوم الثاني لله، الذي هو يسوع المسيح ابن الله. فهو وحده يعرف أفكار الله المثلّث الأقانيم ومقاصده من تلقاء نفسه لأنّه هو الله الذي ظهر في الجسد (1تيموثاوس 3: 16).

حين قال يسوع لتلاميذه «أنا والآب واحد. مَن رآني فقد رأى الآب. أنا في الآب والآب فيّ»كان يؤكّد لهم الوحدة بينه وبين أبيه. أي أنّه والآب واحد في الجوهر والمجد والمقام والقدرة والمشيئة والقصد.

2 - شهادة الرسل

شهادة بطرس: حين سأل يسوعُ تلاميذه «مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟»فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَي» (الإنجيل بحسب متّى 16: 15 و16).

شهادة يوحنّا: «وَنَعْلَمُ أَنَّ ٱبْنَ ٱللّٰهِ قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ ٱلْحَقَّ. وَنَحْنُ فِي ٱلْحَقِّ فِي ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. هٰذَا هُوَ ٱلإِلٰهُ ٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (1 يوحنا 5: 20).

شهادة بولس: «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلزَّمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (غلاطية 4: 4 و5).

3 - شهادة الأنبياء

سليمان الحكيم: «مَن صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ؟ مَن جَمَعَ ٱلرِّيحَ في حُفْنَتَيْهِ؟ مَن صَرَّ ٱلْمِيَاهَ في ثَوْبٍ؟ مَن ثَبَّتَ جَمِيعَ أَطْرَافِ ٱلأَرْضِ؟ مَا ٱسْمُهُ وَمَا ٱسْمُ ٱبْنِهِ إِنْ عَرَفْتَ؟ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ ٱللّٰهِ نَقِيَّةٌ. تُرْسٌ هُوَ لِلْمُحْتَمِينَ بِهِ» (أمثال 30: 4-5).

دانيال: «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى ٱللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ ٱلسَّمَاءِ مِثْلُ ٱبْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى ٱلْقَدِيمِ ٱلأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ ٱلشُّعُوبِ وَٱلأُمَمِ وَٱلأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ» (دانيال 7: 13 و14).

يوحنّا المعمدان: «أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ تَشْهَدُونَ لِي أَنِّي قُلْتُ: لَسْتُ أَنَا ٱلْمَسِيحَ بَلْ إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ... اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ، وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ، وَشَهَادَتُهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُهَا... اَلآبُ يُحِبُّ ٱلٱبْنَ وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلٱبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِٱلٱبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ ٱللّٰهِ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 3: 28-36).

بعد الاستشهاد بهذه الآيات، يجدر بنا أن نذكر أنّ المسيح دُعي ابن الله باعتبار كونه الأقنوم الثاني لله. ولهذا يجب أن يكون معلوماً، أنّ لفظة آب وابن بالنسبة للعقيدة المسيحيّة بعيدة كلّ البعد عن المعنى المُتداول في الأُبوّة والبُنوّة البشريّتَين.

وقد سُمّي الابن في الكتاب المقدّس بالكلمة، وبصورة الله غير المنظور، وبهاء مجد الله ورسم جوهره، وعمّانوئيل الذي تفسيره الله معنا. وكلّ هذه الألقاب توضح لفظة ابن. كما أنّ الكلمة توضح الفكر، وتعلن ما هو عند العقل، هذا الكلمة المتجسّد أعلن الله وأوضح فكر الله للبشر. وكما أنّ الرسم يمثّل الهيئة، هكذا يسوع يمثّل الله. وكما أنّ ضوء الشمس يبيّن بهاءها وهو من جوهرها، هكذا يسوع بهاء مجد الله يبيّن أمجاد اللاهوت الروحيّة. ولكنّه من فرط محبّته استتر برداء الجسد مدّة وجوده في دنيانا، حتّى نستطيع أن نراه ونسمعه.

ممّا تقدّم، نعلم أنّ الابن هو العامل في إعلان اللاهوت، كما أنّه الواسطة لإعلان الله لوجدان الإنسان بطريقة حسّيّة. وكذلك الروح القدس، الأقنوم الثالث، هو الواسطة لإعلان الله لضمير الإنسان، حتّى أنّنا لا ندرك كنه الإعلان بدون فعل الروح القدس، الذي يرشدنا لإدراك أسرار الإعلانات الإلهيّة. وبوحي من هذه الحقيقة، قال الرسول بولس «وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: يَسُوعُ رَبٌّ إِلاَّ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (1 كورنثوس 12: 3).

قد تثير كلمة ابن اضطراباً ذهنيّاً عند البعض، إذ يتصوّرون على الفور بمقارنتها بكلمة آب، أنّ الآب أسبق زمنيّاً من الابن، وأنّ هناك فارقاً زمنيّاً ومركزيّاً بينهما. ولكنّنا نحبّ التأكيد ههنا أنّ كلمة ابن الله لا يمكن أن تشير في قليل أو كثير إلى معنى عدم المساواة أو التلاحق الزمنيّ. وذلك لأنّ كلمة الآب نفسها عندما تُطلَق على الله لا يمكن أن تقوم بالدليل المقابل إلاّ إذا وُجِد الابن.

يعلّمنا الكتاب المقدّس أنّ الله منذ الأزل يُلقَّب بالآب. وهذا اللقب آب يحتّم بالضرورة وجود الابن منذ الأزل. ولعلّ منشأ الخلط والتخبّط في موضوع المساواة، الذي يقع فيه معظم الناس يعود إلى أسبقيّة الآباء على الأبناء، وعلى أساس الفارق الزمنيّ بين الاثنين. ولكنّ التعبير الأدقّ والأصحّ، أنّ أحداً لا يستطيع أن يكون أباً إلاّ من اللحظة التي يوجد فيها الابن. فالفارق الزمنيّ في هذا الموضوع خياليّ موهوم بالنسبة إلى الله وابنه يسوع المسيح. فإذا أُضيف إلى هذا أنّ الله لا يلد ولا يولد، كما يفهم الناس معنى الولادة في الأرض، كان علينا أن ندفع عن الله عزّ وجلّ هذا المعنى، لنتصوّر معاني أخرى أقرب إلى الفهم.

فنحن نقول هذا «ابن الحقّ»وذاك «ابن النور»إشارة إلى التماثل التامّ بينه وبين الحقّ، أو بينه وبين النور. وبهذا المعنى دُعي المسيح ابن الله، للتماثل الأزليّ التامّ القائم بين الآب والابن في ذات الله الواحد. وقد دُعي المسيح كذلك لأنّه هو الإعلان الوحيد الكامل الأزليّ عن ذات الله للناس. أو كما نقرأ في الرسالة إلى العبرانيّين 1: 1-2 «اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ». ويُقرأ في الإنجيل بحسب يوحنّا 1: 14 أنّ يسوع أعلن مجد الآب، إذ يقول «وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً».

8 - لاهوت المسيح وناسوته

«مَن يقول الناس إنّي أنا؟»هذا السؤال طرحه يسوع على تلاميذه منذ عشرين قرناً. وهو سؤال له من الخطورة ما جعله يتردّد على الألسنة إلى يومنا هذا. ولعلّه أعظم سؤال خرج على بساط التاريخ، لأنّه أدقّ وأخطر الآثار في المجموع البشريّ. وسيبقى هذا السؤال ما بقي الزمان، الفيصل الحاسم بين مختلف المذاهب والعقليّات والمدنيّات والحضارات. وعلى الإجابة عليه يتحدّد موقف كلّ إنسان تحديداً قاطعاً شاملاً.

من امتيازات المسيحيّة أنّها لا تفزع ولا تضطرب ممّا يُقال عن المسيح سيّدها، الذي شيّد صروحها على القوّة، وجعلها ثابتة بحيث لا تقوى أبواب الجحيم عليها. والمسيح نفسه شجّع الحرّيّة الفكريّة في أقصى مداها. ولم يُعرَف عنه أنّه أرغم أو أمر إنساناً أن يعتنق مبدأً، أو يفعل شيئاً لم يرده هذا الإنسان، أو يرغب فيه.

1 - اللاهوت الكامل: لعلّ من أغرب الآراء ما نادى به الغنوسيّون الذين أنكروا فكرة التجسّد بالمعنى المتداول بين جمهرة المسيحيّين. فهؤلاء أقرّوا لاهوت المسيح ولم يعترفوا بناسوته. وقد قالوا إنّ المسيح ظهر في هيئة إنسان، دون أن تكون له حقيقة جسد الإنسان. وأنّه لم يولد ولم يتألّم ولم يمت بالحقيقة، لأنّ جسده كان طيفاً أو خيالاً تراءى للناس. وقال فريق منهم إنّ جسد المسيح لم يكن مادّيّاً كباقي أجساد الناس، ولكنّه كان جوهراً خاصّاً سماويّاً.

بيد أنّ هذا الرأي، لم يثبت أمام الحقيقة التي جاءت في الكلمة الموحى بها من الله. إذ نقرأ في 1 يوحنّا 4: 1-3 «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، لاَ تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ، بَلِ ٱمْتَحِنُوا ٱلأَرْوَاحَ: هَلْ هِيَ مِنَ ٱللّٰهِ؟ لأَنَّ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةً كَثِيرِينَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ. بِهٰذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ ٱللّٰهِ: كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ ٱللّٰهِ، وَكُلُّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ فَلَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ. وَهٰذَا هُوَ رُوحُ ضِدِّ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي سَمِعْتُمْ أَنَّهُ يَأْتِي، وَٱلآنَ هُوَ فِي ٱلْعَالَمِ».

2 - الناسوت فقط: هذا الرأي لا يقل غرابة عن الرأي السابق، لأنّ أصحابه ينادون بناسوت المسيح دون لاهوته. إذ يقولون إنّ المسيح هو الإنسان الكامل، أي أنّه أعظم إنسان على الأرض. وتبعاً لذلك، يجب أن يُكرَم كأعظم قائد وأروع وأمجد بطل وشهيد.

ولعلّ أروع جواب يفنّد رأي هؤلاء المبدعين هو قول الدكتور ز. كونراد حين قال «إنّ هؤلاء يخطئون تماماً في ما انتهوا إليه من رأي، إذ لا يمكن أن نجعل المسيح حتّى قائداً أو بطلاً، بعد أن رفضوا ما أقرّه هو لنفسه. إذ لا يعدو في هذه الحال إلاّ أن يكون المسيح واحداً من اثنين: إمّا المخادع الأكبر، أو المخدوع الذي يحتاج إلى الرثاء. وحينئذٍ يصبح من السخف أن نعطيه أيّ مركز من الكرامة. والواقع أنّ المسيح إن لم يكن مستحقّاً للعبادة، فهو لا يستحقّ أدنى حظّ من الاحترام، لأنّه قد طلب لنفسه العبادة والإجلال، الأمر الذي لا يمكن أن يبرّره إن لم يكن إلهاً».

3 - اتّحاد اللاهوت والناسوت في شخص المسيح: هذا هو الرأي الصحيح وقد عاش في الكنيسة، وكُتِب له الانتصار والسيادة والعموميّة. ونادت وما زالت تنادي به القوانين الكنسيّة في كلّ العالم وكلّ الأجيال والعصور. وخلاصة هذا الرأي أنّ المسيح ذو طبيعتَين كاملتَين، إذ هو إله تامّ وإنسان تامّ.

ولربّ سائل يقول: ما هي الدوافع والأسباب التي حدت بالناس والمجامع الكنسيّة إلى الإيمان بلاهوت المسيح؟ وكيف أُتيح لهذه الدوافع أن ترقى وتتأصّل في الأذهان حتّى تبلغ مبلغ العقيدة التي يحيا الناس من أجلها ويستشهدون في سبيلها؟ لماذا يؤمن الناس بلاهوته؟ وما هي الأدلّة الدامغة القاطعة التي عليها يستندون، وفيهم من أعظم جبابرة الفكر البشريّ، وخلاصة عباقرة الناس في كلّ جيل وعصر؟

هذه الأسئلة لا بدّ من الإجابة عليها، قبل أن نؤمن، أو نقنع الناس بصحّة إيماننا بلاهوت المسيح وتجسّده. وهذا بلا ريب يقتضينا أن نقدّم الأدلّة القاطعة في هذا الموضوع:

أوّلاً: الدليل المُستمدّ من النبوّات: فالنصوص العديدة المتواترة، قد امتدّت من أوّل التاريخ، حتّى أسفار العهد القديم. وذلك خلال أربعة آلاف سنة. وهذه النصوص لا يمكن أن يُتَّهَم المسيحيّون باصطناعها أو تأويلها، لأنّها كُتِبَت في سجلاّت الوحي، قبل المسيحيّة. وقد كُتِب آخرها قبل تجسّد المسيح بما يقرب الأربع ماية سنة. ومجمل ما تصرّح به تلك النصوص أنّ شخصاً إلهيّاً سيأتي من السماء، لابساً الطبيعة البشريّة، ليكون مخلِّصاً للعالَم. وأنّ ذلك الشخص يكون من نسل المرأة. ويأتي من ذرّيّة إبراهيم، وعلى وجه التحديد من سبط يهوذا وبيت داود، مولوداً من عذراء، بلا عيب ولا دنس. وأنّه يولد في بيت لحم، مدينة داود. وهو في الوقت ذاته الإله القدير السرمديّ الأبديّ. وهذا لا يمكن أن يتمّ إلاّ بالتجسّد واتّحاد اللاهوت بالناسوت. والنصوص التي تؤكّد هذه الحقيقة عديدة، لذلك أوردُ في ما يلي أظهرها وأوضحها:

من نبوّة إشعياء «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ» (إشعياء 9: 6).

ومن نبوّة إشعياء أيضاً «هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ» (إشعياء 7: 14). وقد فسّر الوحي كلمة «عمّانوئيل»بالقول «الله معنا»(الإنجيل بحسب متّى 1: 23).

من المزامير «قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي: ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ» (مزمور 110: 1). هذا التعبير عظيم جدّاً ولا يمكننا أن نجد له تفسيراً من غير الإيمان بالمخاطبة الأزليّة بين الآب والابن، والإيقان بأنّ الله هو المتكلّم بها.

من نبوّة ميخا «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي ٱلَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ ٱلأَزَلِ» (ميخا 5: 2).

ثانياً: الدليل المُستمدّ من أقوال المسيح: قال رجل الله الواعظ الشهير سبرجن «المسيح هو الحقيقة المركزيّة العظمى في تاريخ العالم، إذ يبدو إزاءه كلّ شيء إلى الأمام أو إلى الخلف وكلّ خطوط التاريخ تتلاقى عنده، وكلّ مواكب العناية تسير وفقاً لإرادته، وكلّ أغراض الحياة العظمى تتمّ في شخصه. فإذا أُضيف إلى هذا كلّه معجزاته وروعة أعماله الشاهدة على صدق كلّ حرف أو كلمة فاه بها، تعيّن التسليم بالدليل القطعيّ والحجّة الدامغة المُستمدّة من أقواله». وقد نسب المسيح إلى نفسه عشرين حقيقة على الأقلّ، لا يمكن أن تُنسَب، إلاّ لله وحده. ومن أهمّ هذه الحقائق:

الأزليّة: ولعلّ هذا من أخطر ما صرّح به، إذ قال لرجال الدين اليهود: «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 8: 58). وقوله «أنا كائن»هو ذات الاسم الذي أطلقه على نفسه، حين سأله موسى: «بماذا أجيب إذ قال الشعب ما اسم الله الذي أرسلك إلينا؟»فقال له: «أَهْيَهِ ٱلَّذِي أَهْيَهْ» (خروج 3: 13-14). وهذا يفيد أنّ المسيح يرى في شخصه ذات الإله القديم الذي ظهر لموسى في العليّقة على جبل حوريب.

وكذلك جاء في الإنجيل بحسب يوحنّا 17: 5 و24 إنّ المسيح قال في صلاته الشفاعيّة «وَٱلآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ، لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ». فهذه الكلمات تؤكّد أزليّة المسيح وتقطع كلّ الألسنة، التي تزعم أنّ المسيح مُحدَث.

المجيء من السماء: في حواره مع جماعة من اليهود، قال يسوع «أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ» (الإنجيل يوحنّا 8: 23).

وفي حديثه مع الرئيس نيقوديموس، قال «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ» (الإنجيل بحسب يوحنا 3: 13).

وقال في سفر الرؤيا «أَنَا ٱلأَلِفُ وَٱلْيَاءُ، ٱلْبِدَايَةُ وَٱلنِّهَايَةُ، ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ» (رؤيا 22: 13).

ونلاحظ هنا أنّ يسوع يتحدّث ليس فقط عن مجيئه من السماء، بل أيضاً عن وجوده في السماء وهو على الأرض.

الحضور في كلّ مكان وزمان: قال: «لأَنَّهُ حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ» (الإنجيل بحسب متّى 18: 20). وقال لتلاميذه بعد قيامته «فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (الإنجيل بحسب متّى 28: 19-20).

القدرة الغير المحدودة: قال عند ظهوره ليوحنّا في جزيرة بطمس «أَنَا هُوَ ٱلأَلِفُ وَٱلْيَاءُ، ٱلْبِدَايَةُ وَٱلنِّهَايَةُ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ ٱلْكَائِنُ وَٱلَّذِي كَانَ وَٱلَّذِي يَأْتِي، ٱلْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» (رؤيا 1: 8).

ثالثاً - الدليل المُستمدّ من ألقابه وأعماله الإلهيّة:

كونه خالقاً: «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ، وَٱلْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ ٱلنَّاسِ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 1: 3 ، 4). «فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ ٱلْكُلُّ: مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. ٱلْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ» (كولوسي 1: 16). «وَأُنِيرَ ٱلْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ ٱلسِّرِّ ٱلْمَكْتُومِ مُنْذُ ٱلدُّهُورِ فِي ٱللّٰهِ خَالِقِ ٱلْجَمِيعِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس 3: 9).

يقيم الأموات: «فَلَمَّا ٱقْتَرَبَ إِلَى بَابِ ٱلْمَدِينَةِ، إِذَا مَيْتٌ مَحْمُولٌ ٱبْنٌ وَحِيدٌ لأُمِّهِ، وَهِيَ أَرْمَلَةٌ وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ. فَلَمَّا رَآهَا ٱلرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا: «لاَ تَبْكِي». ثُمَّ تَقَدَّمَ وَلَمَسَ ٱلنَّعْشَ، فَوَقَفَ ٱلْحَامِلُونَ. فَقَالَ: «أَيُّهَا ٱلشَّابُّ، لَكَ أَقُولُ قُمْ». فَجَلَسَ ٱلْمَيْتُ وَٱبْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ» (الإنجيل بحسب لوقا 7: 12-15).

«لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجاً»فَخَرَجَ ٱلْمَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ، وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ»(الإنجيل بحسب يوحنّا 11: 43 ، 44).

ديّان كلّ العالَم: «وَمَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ ٱلْمَلاَئِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ ٱلشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ ٱلرَّاعِي ٱلْخِرَافَ مِنَ ٱلْجِدَاءِ» (الإنجيل بحسب متّى 25: 31 ، 32).

«لأَنَّ ٱلآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلٱبْنِ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 5: 22).

تحقّ له العبادة: «لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلٱبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ ٱلٱبْنَ لاَ يُكْرِمُ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 5: 23).

وعبادة الابن مع الآب، كانت معروفة لدى رجال الله في العهد القديم فقد قال داود «ٱعْبُدُوا ٱلرَّبَّ بِخَوْفٍ وَٱهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ. قَبِّلُوا ٱلٱبْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ ٱلطَّرِيقِ» (مزمور 2: 11، 12).

يغفر الخطايا: كان اليهود يوقنون على الدوام أن لا أحد يملك غفران الخطايا إلاّ الله وحده. لهذا انذهلوا حين وقفوا أمام إحدى عجائب يسوع، الذي قال للمفلوج «يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ» ولما ثارت أفكارهم على تصرفه «قَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهٰذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟ أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَٱحْمِلْ سَرِيرَكَ وَٱمْشِ؟ وَلٰكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ ٱلْخَطَايَا - قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: لَكَ أَقُولُ قُمْ وَٱحْمِلْ سَرِيرَكَ َٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ. فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ ٱلسَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ ٱلْكُلِّ، حَتَّى بُهِتَ ٱلْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا ٱللّٰهَ قَائِلِينَ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هٰذَا قَطُّ!» (الإنجيل بحسب مرقس 2: 5-12).

يعطي الحياة الأبديّة: قال: «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 10: 27-28).

مساوٍ للآب: قال «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 10: 30) «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ، صَدِّقُونِي أَنِّي فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ، وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ ٱلأَعْمَالِ نَفْسِهَا» (الإنجيل بحسب يوحنّا 14: 9 و11).

قَبِل السجود والتعبُّد: ليس من شكّ في أنّ المسيح قَبِل السجود والتعبّد، ممّا لا يجوز لمخلوق على الإطلاق أن يقبلهما. وقد حدث هذا مع الرجل المولود أعمى. فلمّا سأله المسيح «أتُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ؟ أَجَابَ: مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ. فَقَالَ: أُومِنُ يَا سَيِّدُ. وَسَجَدَ لَهُ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 9: 35-38).

رابعاً - الدليل المُستمدّ من شهادة التلاميذ:

فشهادة التلاميذ، الذين عاينوا مجده قدّموا شهادة صريحة ناجزة لا شُبهة فيها، وهاكم بعضها على سبيل المثال، لا سبيل الحصر:

توما: فهذا التلميذ بعد القيامة حين لمس أثر المسامير في يديه ورجليه ووضع أصبعه على جنبه الذي طُعِن بالحربة، سجد له وقال «رَبِّي وَإِلٰهِي» (الإنجيل بحسب يوحنّا 20: 28).

يوحنّا: قال هذا التلميذ المُلهَم: «وَنَحْنُ فِي ٱلْحَقِّ فِي ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. هٰذَا هُوَ ٱلإِلٰهُ ٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّة» (1 يوحنّا 5: 20).

بولس: قال هذا الرسول في كرازته: «وَمِنْهُمُ ٱلْمَسِيحُ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، ٱلْكَائِنُ عَلَى ٱلْكُلِّ إِلٰهاً مُبَارَكاً إِلَى ٱلأَبَدِ» (رومية 9: 5).

9 - عقيدة الثالوث الأقدس

تؤمن المسيحيّة بأنّ الله شخص حيّ، ليس جسماً مادّيّاً، يمكن أن يُرى ويُلمَس، أو يُدرَك بالحواس. إنّ الله كما قال المسيح «رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (الإنجيل بحسب يوحنّا 4: 24). وهو أيضاً أبو الأرواح، إذ أبدع هذه على صورته كشبهه. هكذا نقرأ في الكتاب العزيز «وَقَالَ ٱللّٰهُ: نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تكوين 1: 26). وإنّما هذا الإله الواحد الشخص، ذو ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس.

ولكن حين نتأمّل هذه العقيدة، لا بدّ لنا من الاعتراف بأنّنا إزاء سرّ من أعمق أسرار الوجود والحياة. وقد اعترف القدّيس أوغسطينوس، وتلاه المصلح العظيم كالفن، بأنّ اللغة اللاتينيّة، على ما فيها من جمال وغنى في المفردات، عاجزة كلّ العجز عن التعبير عن عمق هذا السرّ.

والأمر المتيقّن عندنا أنّ المسيحيّين لم يأخذوا عقيدة الوحدانيّة والثالوث من بشر، فلم تأتِهم من إنتاج فكر بشريّ، بل آمنوا بها كحقيقة معلَنة من الله ومتمشّية في رحاب كتابه المقدّس، من مطلعه إلى نهايته.

ولعلّه من الأفضل، قبل وضع هذه العقيدة على بساط الدرس، أن نلمّ في شيء من الإفصاح بتاريخها في كنيسة المسيح، والأفكار التي تناولتها، حتّى وصلت إلى وضعها النهائيّ الدائم، غير المتغيّر.

كان المسيحيّون في أيّام الرسل، وحتّى أول القرن الثاني الميلاديّ لا يفكّرون في وضع صيغة معيّنة للعقائد المسيحيّة، إذ كانوا يتعلّقون بهذه العقائد ويمارسون مبادئها كما جاءت في الكتاب المقدّس، دون أن يضعوا لها شكلاً معيّناً وموحَّداً. وحين كانت تعترضهم مشكلة أو صعوبة ما، كانوا يرجعون إلى الرسل، وإلى تلاميذهم من بعدهم.

بيد أنّه حين قامت بعض البدع، وثارت خلافات حول بعض النقاط، أهمّها مركز المسيح، أو الروح القدس من اللاهوت، صارت الحاجة ماسّة إلى أن تقول الكنيسة كلمتها الفاصلة في هذا النزاع الخطير. وخصوصاً حين انتشرت آراء سباليوس وأريوس. فالأوّل قال: إنّ وحدانيّة الله مجرّدة من الثالوث. أمّا القول بالآب والابن والروح القدس فليست سوى تجلّيات ومظاهر لله. أمّا أريوس، فقد نادى بعدم مساواة الابن والروح القدس بالآب. لأنّ كليهما (حسب إدّعائه) مخلوق. وعلى هذا الأساس، يكونان أقلّ منه، وإن كان الآب جعلهما مشابهَين لطبيعته الإلهيّة.

فرفضت الكنيسة هذه الآراء بسبب مناقضتها للكتاب المقدّس، الذي يعلّم صراحة بأنّه لم يكن هناك زمن لم يكن فيه كلّ من الأقانيم قائماً بذاته، إذ كان الابن قائماً مع الآب منذ الأزل. إذ نقرأ في المزمور 110: 1 «قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي: ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي». ونقرأ في المزمور 16: 8 ما قيل بلسان الابن: «جَعَلْتُ ٱلرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ. لأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ».

ومن أبرز رجال الكنيسة الذين حاربوا البدع وحاموا عن الإيمان القدّيس أثناسيوس القبطي الإسكندري الذي فنّد تلك البدع، وأصدر القانون الأثناسيّ المعروف، والذي ألخصه بما يلي:

  1. كلّ مَن ابتغى الخلاص وجب عليه قبل كلّ شيء أن يتمسّك بالإيمان الجامع للكنيسة المسيحيّة.

  2. هذا الإيمان الجامع هو أن نعبد إلهاً واحداً في ثالوث، وثالوثاً في توحيد.

  3. لا نمزج الأقانيم ولا نفصل الجوهر.

  4. إنّ للآب أقنوماً، وللابن أقنوماً، وللروح القدس أقنوماً، ولكنّ الآب والابن والروح القدس لاهوت واحد، ومجد متساوٍ وجلال أبديّ معاً.

  5. كما هو الآب، كذلك الابن، وكذلك الروح القدس.

  6. الآب غير مخلوق، والابن غير مخلوق، والروح القدس غير مخلوق، ولكن ليسوا ثلاثة غير مخلوقين بل واحد غير مخلوق.

  7. الآب غير محدود، والابن غير محدود، والروح القدس غير محدود، ولكن ليسوا ثلاثة غير محدودين بل واحد غير محدود.

  8. الآب سرمد، والابن سرمد، والروح القدس سرمد، ولكن ليسوا ثلاثة سرمديّين، بل سرمد واحد.

  9. الآب ضابط الكلّ، والابن ضابط الكلّ، والروح القدس ضابط الكلّ. ولكن ليسوا ثلاثة ضابطين الكلّ، بل واحد ضابط الكلّ.

  10. الآب إله، والابن إله، والروح القدس إله، ولكن ليسوا ثلاثة آلهة بل إله واحد.

  11. الآب ربّ، والابن ربّ، والروح القدس ربّ. ولكن ليسوا ثلاثة أرباب بل ربّ واحد.

  12. وكما أنّ الحقّ المسيحيّ يأمرنا بأن نعترف، أنّ كلاًّ من هذه الأقانيم بذاته إله وربّ هكذا الدين الجامع ينهانا عن القول بوجود ثلاثة آلهة وثلاثة أرباب.

  13. فإذ لنا آب واحد لا ثلاثة آباء، وابن واحد لا ثلاثة أبناء، روح قدس واحد لا ثلاثة أرواح قدس.

  14. 1ليس في هذا الثالوث مَن هو قبل غيره أو بعده، ولا مَن هو أكبر أو أصغر منه. ولكن جميع الأقانيم سرمديّون معاً ومتساوون.

  15. لذلك في جميع ما ذُكِر يجب أن نعبد الوحدانيّة في ثالوث، ونعبد الثالوث في وحدانيّة.

  16. الإيمان المستقيم، هو أن نؤمن ونقرّ بأنّ ربّنا يسوع المسيح هو إله من جوهر الآب، مولود قبل الدهور، وأنّه إنسان من جوهر أمّه مولود في هذا الدهر.

  17. وهو وإن يكن إلهاً وإنساناً إنّما هو مسيح واحد، لا إثنان. وقد صار إنساناً ليس باستحالة لاهوته إلى جسد، بل باتّخاذ الناسوت إلى اللاهوت.

ولربّ سائل يقول: ولكن ما هو عماد هذه الحقيقة وأساسها؟ وما برهان صحّتها وثباتها؟ ولماذا بلغت هذا الحدّ من القوّة والرسوخ والاستقرار في التاريخ؟

الجواب: نعتمد أولاً وأخيراً على الكتاب المقدّس. إذ لا يمكن للإنسان مهما بلغ من قوّة الفكر وعظمة التأمّل أن يدرك طبيعة الله بدون كشف أو إعلان من الله ذاته. وما جاء من خارج الكتاب عن الثالوث من أفكار فلسفيّة أو محاجات منطقيّة لم يكن إلاّ بسطاً أو عرضاً لِما في الكتاب المقدّس، عن طريق القياس. وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما دمنا بصدد سرّ من أعوص الأسرار التي يقف أمامها الإنسان؟ وممّا لا شبهة فيه، أنّ الوحدانيّة في طبيعة الله التي نادى بها الكتاب المقدّس، والتي تعلو كلّ منازعة وجدل، ليست وحدانيّة مجرّدة أو بسيطة، بل هي وحدانيّة شاملة تكشف عن طبيعة الثالوث الأقدس التي يؤمن بها المسيحيّون. والمعنيّون بدراسة هذه العقيدة في الكتاب المقدّس آمنوا بها، واستقرّوا عليها، ورسموا صورتها في قوانين الكنيسة. وأبرز هذه القوانين، هو قانون الإيمان النيقاويّ وهذا نصّه:

«أنا أومن بإله واحد، آب، قادر على كلّ شيء، خالق السماء والأرض، وكلّ ما يُرى وما لا يُرى. وبربّ واحد، يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كلّ الدهور. إله من إله. نور من نور. إله حقّ من إله حقّ. مولود غير مخلوق. ذو جوهر واحد مع الآب. هو الذي به كان كلّ شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء، وتجسّد بالروح القدس من مريم العذراء وصار إنساناً. وصُلِب على عهد بيلاطس البنطيّ. وتألّم وقُبِر. وقام أيضاً في اليوم الثالث. وصعد إلى السماء، وهو جالس عن يمين الآب. وسيأتي بمجد ليدين الأحياء والأموات، الذي ليس لملكه نهاية. وأومن بالروح القدس، الربّ المحيي المنبثق من الآب، الذي تكلّم بالأنبياء. وأعتقد بكنيسة واحدة جامعة رسوليّة. وأعترف بمعموديّة واحدة لمغفرة الخطايا، وأنتظر قيامة الموتى وحياة الدهر الآتي، آمين».

صحيح أنّ الكتاب المقدّس يقول: «الربّ إلهنا ربّ واحد. أنا الربّ، هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخَر» ولكنّ الكتاب العزيز مليء بالآيات التي تدلّ على أنّ في ذات الله وحدانيّة جامعة، أوردنا بعضها فيما تقدّم.

وكذلك من مطالعة الأسفار المقدّسة، ندرك أنّ الله متّصف بصفات، كالسمع والبصر، والكلام، والعلم، والإرادة، والمحبّة. لأنّه تعالى ذات، له علاقة بمخلوقاته، التي تتّصف بهذه الصفات. وهذه الصفات لم تكن معطّلة في الأزليّة، أي قبل أن يخلق هذه الكائنات. وهذا يفيد أنّه له المجد كان يمارس هذه الصفات. وبديهيّ أنّ ممارستها لا يمكن أن تقوم إلاّ بين أكثر من كائن عاقل. وهذا يحتّم وجود الأقانيم الثلاثة في وحدانيّة الله.

ولا ريب في أنّ مَن يتأمّل في العقيدة المسيحيّة بعمق، سيجد الأمور التالية:

  1. لكلٍّ من الأقانيم، الآب والابن والروح القدس، ما للآخر من الألقاب والصفات الإلهيّة. وأن كلاً من الآب والابن والروح القدس يستحقّ العبادة الإلهيّة والإكرام والثقة.

  2. يتّضح من الكتابة المقدّسة لاهوت الابن، كما يتّضح لاهوت الآب. فقد قال المسيح «لِيُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلٱبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 5: 23).

  3. أيضاً يتّضح من الكتابة المقدّسة لاهوت الروح القدس، كما يتّضح لاهوت الآب والابن. فقد قال المسيح: «اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (الإنجيل بحسب يوحنّا 4: 24).

وكذلك حين ندرس العقيدة المسيحيّة، نرى أنّ أسماء الثالوث الأقدس، أي: الآب والابن والروح القدس، ليست كنايات عن نسب مختلفة بين الله وخلائقه، كما زعم البعض، كلفظة خالق، وحافظ، ومنعم، الأمر الذي تنفيه الإعلانات التالية:

  1. إنّ كلاًّ من الآب والابن والروح القدس، يقول عن ذاته «أنا».

  2. إنّ كلاًّ منهم يقول للآخر في الخطاب «أنت»ويقول عنه في الغيبة «هو».

  3. إنّ الآب يحبّ الابن، والابن يحبّ الآب، والروح القدس يشهد للابن ويمجّده.

وكنتيجة طبيعيّة لكلّ هذه الحقائق الكتابيّة، خرج المسيحيّون إلى العالم بعقيدتهم الكبرى، عقيدة الإيمان بالإله الواحد، والثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس.

قد يقول كثيرون: إنّ هذا التعليم فوق إدراكنا. ولكن هذا القول لا يفسّر ما يشابهه من الحقائق الدينيّة والعلميّة. ويجب الاعتراف بأنّ عقولنا القاصرة لم تُخلَق مقياساً للممكن وغير الممكن ممّا هو فوق إدراكنا.

وحدانيّة الأقانيم:

1 - في اللاهوت:

جاء في الكتاب المقدّس الموحى به من الله ما يلي:

عن الآب أنّه الله أبونا: إذ نقرأ في 2 تسالونيكي 2: 16 «وَرَبُّنَا نَفْسُهُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، وَٱللّٰهُ أَبُونَا ٱلَّذِي أَحَبَّنَا وَأَعْطَانَا عَزَاءً أَبَدِيّاً وَرَجَاءً صَالِحاً بِٱلنِّعْمَةِ».

عن الابن أنّه الله الأزليّ، إذ نقرأ في عبرانيّين 1: 8 «وَأَمَّا عَنْ ٱلٱبْنِ: كُرْسِيُّكَ يَا أَللّٰهُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. قَضِيبُ ٱسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ».

عن الروح القدس أنّه الله بالذات، إذ نقرأ في أعمال 5: 3-4 «يَا حَنَانِيَّا، لِمَاذَا مَلَأَ ٱلشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ... أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى ٱلنَّاسِ بَلْ عَلَى ٱللّٰهِ».

2 - في كلمة ربّ:

عن الآب أنّه ربّ، إذ نقرأ في الإنجيل بحسب لوقا 10: 21 «وَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِٱلرُّوحِ وَقَالَ: أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ، رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ».

عن الابن أنّه ربّ، إذ نقرأ في أعمال 10: 36 «ٱلْكَلِمَةُ ٱلَّتِي أَرْسَلَهَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ يُبَشِّرُ بِٱلسَّلاَمِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. هٰذَا هُوَ رَبُّ ٱلْكُلِّ».

عن الروح القدس أنّه ربّ، إذ نقرأ في 2 كورنثوس 3: 17 «وَأَمَّا ٱلرَّبُّ فَهُوَ ٱلرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ ٱلرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ».

3 - في الأزليّة

الآب أزليّ إذ نقرأ في دانيال 6: 26 «... إِلَهِ دَانِيآلَ، لأَنَّهُ هُوَ ٱلإِلَهُ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ إِلَى ٱلأَبَدِ».

الابن الأزليّ، إذ نقرأ في رؤيا 1: 8 «أَنَا هُوَ ٱلأَلِفُ وَٱلْيَاءُ، ٱلْبَِدَايَةُ وَٱلنِّهَايَةُ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ ٱلْكَائِنُ وَٱلَّذِي كَانَ وَٱلَّذِي يَأْتِي، ٱلْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ».

الروح القدس أزليّ: إذ نقرأ في عبرانيّين 9: 14 «فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا ٱللّٰهَ ٱلْحَيَّ!».

4 - الحضور في كلّ مكان وزمان:

الآب، إذ نقرأ في رسالة أفسس 4: 6 «إِلٰهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، ٱلَّذِي عَلَى ٱلْكُلِّ وَبِٱلْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ».

الابن، إذ نقرأ في الإنجيل بحسب متّى 18: 20 «لأَنَّهُ حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ».

الروح القدس، «أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ ٱلصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي ٱلْبَحْرِ، فَهُنَاكَ أَيْضاً تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ» (مزمور 139: 7-10).

5 - إستحقاق السجود:

الآب، نقرأ في الإنجيل بحسب يوحنّا 4: 23 «وَلٰكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ ٱلسَّاجِدُونَ ٱلْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ».

الابن، إذ نقرأ في فيلبّي 2: 10-11 «لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ».

الروح القدس، فالروح القدس يُعِدّ المؤمنين لتقديم السجود، إذ نقرأ في رومية 8: 26 «وَكَذٰلِكَ ٱلرُّوحُ أَيْضاً يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا، لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي. وَلٰكِنَّ ٱلرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا».

6 - في صفة الحقّ:

الآب حقّ أيّها الآب «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 17: 17).

الابن حقّ « قَالَ لَهُ يَسُوع أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاَّ بِي» (الإنجيل بحسب يوحنّا 14: 6).

الروح القدس حقّ فقال يسوع «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ ٱلآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى ٱلأَبَدِ، رُوحُ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ ٱلْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 14: 16 ، 17).

7 - في المحبّة:

الآب محبّ، قال يسوع «لأَنَّ ٱلآبَ نَفْسَهُ يُحِبُّكُمْ، لأَنَّكُمْ قَدْ أَحْبَبْتُمُونِي، وَآمَنْتُمْ أَنِّي مِنْ عِنْدِ ٱللّٰهِ خَرَجْتُ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 16: 27).

الابن محبّ، قال له المجد: «أَنْتُمْ أَحِبَّائِي إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أُوصِيكُمْ بِهِ. لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً، لأَنَّ ٱلْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لٰكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي» (الإنجيل بحسب يوحنّا 15: 14 ، 15).

الروح القدس محبّ، لأنّه روح المحبّة. قال الرسول بولس «لأَنَّ ٱللّٰهَ لَمْ يُعْطِنَا رُوحَ ٱلْفَشَلِ، بَلْ رُوحَ ٱلْقُوَّةِ وَٱلْمَحَبَّةِ وَٱلنُّصْحِ» (2 تيموثاوس 1: 7).

8 - في القداسة:

الآب قدّوس، قال يسوع في صلاته الشفاعيّة «أَيُّهَا ٱلآبُ ٱلْقُدُّوسُ، ٱحْفَظْهُمْ فِي ٱسْمِكَ. ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي» (الإنجيل بحسب يوحنّا 17: 11).

الابن قدّوس، قال ملاك الربّ لمريم العذراء «اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ ٱلْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذٰلِكَ أَيْضاً ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (الإنجيل بحسب لوقا 1: 35).

الروح القدس قدّوس، نقرأ في أفسس 4: 30 «وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ ٱللّٰهِ ٱلْقُدُّوسَ ٱلَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ ٱلْفِدَاءِ».

10 - الردّ على الإعتراضات

1 - الاعتراض على لاهوت الابن:

قد يعترض أحدهم على لاهوت المسيح، ويعّزز اعتراضه بقول المسيح «لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ ٱلآبِ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي» (الإنجيل بحسب يوحنّا 5: 30)، «أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي» الإنجيل بحسب يوحنّا 14: 28). فإلى هذا المعترِض نقول: هذه العبارات، لا تنفي لاهوت المسيح باعتبار نسبته إلى الآب في الثالوث الأقدس. وكلّ ما هنالك هو أنّه كان من مستلزمات الفداء أن يتجسّد الأقنوم الثاني لله، لإتمام المشيئة الإلهيّة بتقديم نفسه كفّارة عن البشر. وبعد أن أكمل هذا العمل الإلهيّ، صعد إلى السماء «وجَلَسَ فِي يَمِينِ ٱلْعَظَمَةِ فِي ٱلأَعَالِي» (عبرانيين 1: 3)، «فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُّوَةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ ٱسْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هٰذَا ٱلدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي ٱلْمُسْتَقْبَلِ أَيْضاً» (أفسس 1: 21).

ونفهم من التعليم الرسوليّ أنّ عمل الفداء استلزم أن يكون الفادي إنساناً، ليشترك في طبيعة الذين أتى ليفديهم، وأن يكون إلهاً ليكون له سلطان فائق ليغلب الخطيّة ويحرّر كلّ مَن يؤمن به من سلطتها. وكلّ مَن يدرس الكتاب المقدّس يرى طيف هذا الفادي خلال سطوره، من سفر التكوين إلى آخر سفر الرؤيا. يراه تارة إنساناً مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبنّي (غلاطية 4: 4-5). ويراه تارة إلهاً، ليكون مركزاً لعبادة مختاريه وموضوعاً لإيمانهم. فالمسيح شخص عجيب أي أنّه إله وإنسان معاً. وهذا الشخص العجيب ملأ رؤى الأنبياء خلال الأجيال التي سبقت تجسّده. وقد أشار إشعياء النبيّ إلى تجسّده كآية الله العظمى، إذ يقول: «وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ ٱلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللّٰهُ مَعَنَا» (إشعياء 7: 14، الإنجيل بحسب متّى 1: 23). ثمّ وصفه النبيّ الكريم بالقول: «وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ» (إشعياء 9: 6).

2 - الاعتراض على لاهوت الروح القدس:

يقول بعضهم إنّ الروح القدس ليس بأقنوم، وإنّما هو قوّة الله في إجراء عمله في الكون وفي قلوب البشر. بيد أنّ نصوص الكتاب المقدّس تؤكّد أنّ الروح القدس شخص وليس مجرّد قوّة إلهيّة فعّالة فينا، لأنّ القوّة المجرَّدة من الأقنوميّة لا يمكن أن توصف بأنّها ذات قداسة، حقّ وحكمة، ومشيئة، وأنّها تخاطِب وتُخاطَب.

لقد جاء في الكلام عن معموديّة المسيح أنّ الروح القدس نزل عليه بهيئة جسميّة «مثل حمامة»وكان صوت من السماء قائلاً «أَنْتَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ» (الإنجيل بحسب لوقا 3: 22). وهذا يدلّ على وجود الأقانيم الثلاثة، فالروح القدس نزل من السماء من لدن الآب، الذي تكلّم في السماء وعلى الابن الذي كان على الأرض.

ومن هذا القبيل صورة البركة الرسوليّة (2كورنثوس 13: 14)، ووعد المسيح لتلاميذه بمعّزٍ آخر (يوحنا 15: 26)، والقول الرسوليّ إنّ لنا بالمسيح قدوماً في روح واحد إلى الآب (أفسس 2: 18).

وكلّ مَن درس الكتاب المقدّس، يرى نصوصاً كثيرة تبيّن بُطل زعم القائلين بأنّ الروح القدس مجرّد قوّة إلهيّة. منها: القول الرسوليّ أنّه بالروح الواحد أُعطيت الكنيسة مواهب كثيرة، التي من جملتها عمل القوّات (1 كورنثوس 12: 4-11). فلو كان الروح القدس مجرّد قوّة، لكان المعنى أنّ الروح نفسه هو إحدى هذه المواهب. ومن هذه النصوص أيضاً الآيات الآتية:

«وَرَجَعَ يَسُوعُ بِقُوَّةِ ٱلرُّوحِ القدس» (الإنجيل بحسب لوقا 4: 14).

«مَسَحَهُ ٱللّٰهُ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَٱلْقُوَّةِ» (أعمال الرسل 10: 38).

«لِتَزْدَادُوا فِي ٱلرَّجَاءِ بِقُوَّةِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (رومية 15: 13).

«بِقُوَّةِ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ، بِقُوَّةِ رُوحِ ٱللّٰهِ» (رومية 15: 19).

«بِبُرْهَانِ ٱلرُّوحِ وَٱلْقُوَّةِ» (1 كورنثوس 2: 4).

فلو صحّ زعم المعترضين للزم تفسير هذه الآيات هكذا «فرجع يسوع بقوّة القوّة»- «لتزدادوا في الرجاء بقوّة القوّة القدّوسة». ولوجب تفسير البركة الرسوليّة على هذا النحو «نعمة ربّنا يسوع المسيح، وشركة القوّة القدّوسة معكم إلى الأبد». وهذا لا يقبله العقل السليم.

3 - الاعتراض على القول بالأقانيم الثلاثة:

كثيراً ما طُرِح عليّ هذا السؤال: ما هو دليلكم على تعدّد الأقانيم في ذات الله الواحد؟ والجواب: إنّ بروز وحدانيّة الله في الكتاب المقدّس، والاعتراف بأنّ الكون لا يسع آخر نظير الله، لا يمنع بالضرورة كونه في ثلاثة أقانيم، هم واحد في الجوهر.

ونستدلّ على ذلك من نصوص الكتاب المقدّس. فالنصّ المستعمل اسماً لله في العهد القديم، هو في الغالب «إلوهيم»في صيغة الجمع وكذلك الاسم المسنَد إليه، والضمير الذي يعود إليه. وأبرز ما جاء في هذا الخصوص، هو في تثنية 6: 4 حيث يقول «ٱسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ». فكلمة إلهنا وردت هنا في صيغة الجمع، مع أنّه كان القصد منها بيان وحدانيّة الربّ. وهناك آيات أخرى عديدة ورد فيها اسم الجلالة في صيغة الجمع، منها:

«نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تكوين 1: 26).

«هُوَذَا ٱلإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا» (تكوين 3: 22).

«هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ» (تكوين 11: 7).

«مَنْ أُرْسِلُ، وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟» (إشعياء 6: 8).

يقول البعض انّ الله قصد في ذلك تعظيم نفسه نظير عادة الملوك. ولكن ماذا عن التساؤل: «من أرسل... من أجلنا؟»وماذا عن قول الله «هوذا الإنسان صار كواحد منّا»إنهما ينفيان هذا القول.

قد يكون سرّ الثالوث فوق إدراكنا، ولكن هذا لا يعني أنّه يصحّ رفضه لعدم إمكاننا إدراكه. فإعلانات إلهيّة كثيرة إدراكها فوق طاقتنا، نظير كونه تعالى قائماً بنفسه وأزليّاً وعلّة العلل، وغير معلول البتّة، وموجوداً في كلّ مكان، في وقت واحد، وعالماً بكلّ شيء، وبكلّ ما يحدث، منذ الأزل إلى الأبد، وفي كلّ وقت.

وقد تقدّم أنّ القول بالثالوث، وإن كان حقيقة فوق إدراكنا، فإنّه لا ينافي التوحيد. وليس فيه ما يلجئنا إلى رفضه، أو ما يؤول إلى المُحال عقلاً أو إيماناً. لأنّه لا يعني وجود ثلاثة آلهة.

وربّ سائل يقول: هل لتعليم الثالوث من فائدة في الدين المسيحيّ؟ فإلى هذا أقول «إنّ فائدة تعليم الثالوث تظهر في إيضاح تعاليم أخرى مهمّة في الأسفار المقدّسة»، منها:

  1. إنّه يرفع شأن اللاهوت، ويوضح كمالاته. فالتوحيد دون الثالوث يحصر اللاهوت ويجعله خلواً من كلّ موضوع للمحبّة والسعادة، لأنّنا نرى في مشاورة الأقانيم ومحبّة أحدها الآخر، ما يجعل في اللاهوت كلّ مقتضيات السعادة الأزليّة.

  2. إنّ الثالوث وسيلة إعلان الله نفسه للخليقة. فكلٌّ من الآب والابن والروح القدس إله من جوهر واحد. فالابن يعرف الله كمال المعرفة. ولذلك يقدر أن يعلنه بكماله. والروح القدس من جوهر اللاهوت، ولذلك يقدر أن يعلن اللاهوت لأرواح البشر.

    فبواسطة الأقانيم الثلاثة يقترب الله إلى المخلوقات، وبدون هذا الاقتراب يصبح الله بعيداً عنّا، محجوباً عن إدراكنا، منفصلاً عن اختبارنا.

  3. إنّ الله في الثالوث أتمّ عمل الفداء بكلّ لوازمه. فالأقنوم الثاني تجسّد، وكفّر عن خطايانا، وشفع فينا. ورتّب كلّ وسائط التبرير والمصالحة والخلاص. هكذا قال الرسول: «إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (2كورنثوس 5: 19) وكذا يُقال عن عمل الروح القدس، الأقنوم الثالث. فهو يجدّد قلوبنا، وينير عقولنا، ويقدّسنا التقديس اللازم للدخول إلى حضرة الله.

    والواقع أنّه بدون الأقانيم، لا يصحّ أن يكون الله فادياً ومخلِّصاً ومقدِّساً وقاضياً معاً، على كيفيّة تتمّ فيها كلّ لوازم فداء الخاطي من لعنة الشريعة، التي لحقت به من جرّاء الخطيّة.

  4. إنّ الثالوث يقدّم الله كمثال للحياة البشريّة فيما يتعلّق بالمعاشرة الحبّيّة والإلفة الأهليّة. فنرى حقيقة الأبوّة في الأقنوم الأوّل والبنوّة في الأقنوم الثاني. الأمر الذي يرفع شأن النسبتَين الأبويّة والبنويّة بين البشر.

ولو جرّدنا اللاهوت من كلّ شعور بالمحبّة لأصبح الله بالنسبة لنا ذلك السيّد الصارم الجبّار، الذي تفصلنا عنه الصرامة والجبروت.

المسابقة

إن قرأت هذا الكتاب بتعمّق، تستطيع بسهولة أن تجيب على الأسئلة التالية:

  1. ما هي النقاط التي تتقارب فيها المسيحيّة من الإسلام فيما يختصّ بشخصيّة المسيح؟

  2. ما هي الأسباب التي حملت المسلمين على رفض التعليم المسيحيّ في موضوع اللاهوت الجامع في الأقانيم الثلاثة؟

  3. في رأيك، هل في خلوّ الكتب المقدّسة من أيّة إشارة إلى رسوليّة محمّد سبب كافٍ لأدّعاء عامّة المسلمين بأنّ هذه الكتب قد حُرِّفَت؟

  4. ما هي ميّزات المسيح في القرآن؟

  5. ما هي المعجزات التي نسبها الإسلام للمسيح ولم ترد في الإنجيل؟

  6. هل يمكنك أن تتحسّس لاهوت المسيح من خلال نصوص القرآن؟

  7. في رأيك، ما هي الأسباب التي حملت الإسلام على استنكار أبوّة الله للمسيح؟

  8. ما هي النظريّات التي أبداها الإسلام حيال لاهوت المسيح، وهل فيها الدليل على نفي ذلك؟

  9. بماذا تردّ على الإمام الرازي في نظريّاته حول نفي لاهوت المسيح؟

  10. بماذا تردّ على قول الإسلام بأنّ المسيح مجرّد عبد؟

  11. ما هي أدلّتك - باختصار - من الكتاب المقدّس على لاهوت المسيح؟

  12. هل صرّح المسيح بألوهيّته في الإنجيل؟ اذكر الشواهد!

  13. ما هي أدلّتك على لاهوت المسيح من أقوال الأنبياء والرسل في العهدَين القديم والجديد؟

  14. هل طلب المسيح من الناس أن يكرموه كما يكرمون الآب؟

  15. كيف تفنّد آراء الغنوسيّين والأريوسيّين التي أبدوها لنفي لاهوت المسيح؟

  16. هل في المزامير نصّ يحضّ على قبول ألوهيّة الابن؟

  17. كيف تفسّر حقيقة أنّ الله واحد في ثلاثة أقانيم؟

  18. كيف تردّ على القائلين بأنّ القول بالثالوث الأقدس هو إشراك بالله؟

  19. هل للقول بالثالوث الأقدس جذور في الكتب المقدّسة؟

  20. اذكر نصّاً من الكتاب المقدّس تظهر فيه وحدانيّة الثالوث؟

الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:

www.the-good-way.com/ar/contact

او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:


The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486
Rikon
Switzerland